{فخامة الرئيس» مسرحية سياسية ساخرة، تحاكي هذا الزمن تماماً كما حاكت حقبة الثمانينيات بأسلوب كوميدي، باعتبار أن الكوميديا اليوم حاجة، أكثر من الأنواع المسرحية الأخرى، لدى الجمهور الذي يعيش كمّا من المآسي والحروب في حياته اليومية...  

Ad

لأن التاريخ يعيد نفسه، تعتمد المسرحية على الخلفية التاريخية وتبرز ذهنيات يتنازعها طموح بالسلطة، وهو بمكان ما تعويض عن نقص في الشخصية، ويتنوّع  بين سلطة الجمال وسلطة القوة وسلطة المال... ويتنازعها أيضاً شغف بالمظاهر الذي يدفع الشخص إلى تحمل الجوع في مقابل اقتناء سيارة جديدة على سبيل المثال...

واقع مرير

تتمحور الأحداث حول زوج حديث النعمة (أسعد حداد) طامح إلى رئاسة الجمهورية وحقق ذاته بالاحتيال، زوجة (سولانج تراك) التي وجدت نفسها في لحظة  ما في إفلاس بعدما فقدت عائلتها كل ما تملك، لذا تطمح إلى استرجاع ما فات ويتملكها  هوس بالمجد والجاه، صحافي مخادع (شربل زيادة) وانتهازي يعرف من أين تؤكل الكتف، حارس شخصي (بشير مارون) يدخل ضمن يوميات اللبنانيين بترويعه لهم في الشارع بسلاحه، لمجرّد أنه يحمي شخصية سياسية، خادمة  (نادين نعمة) تدعي التبصير بفنجان القهوة وتتكل زوجة المرشح على توقعاتها لتحدد لزوجها تحركاته متمثلة بذلك بزوجات  رؤساء الجمهورية في أميركا لا سيما نانسي ريغن. وحدها ابنة الزوج تعيش الواقع كما هو وتدرك حقيقة كل واحد من الأشخاص المحيطين بها.

هؤلاء جميعهم  تحركهم، على مدى فصول المسرحية، لعبة سياسية اجتماعية ونفسية على وجه الخصوص، تستلهم أدواتها من الزحف المستمر نحو السلطة ولو على حساب الكرامة، والوصولية واسترضاء القوى الخارجية، واللعب على الكلام الذي اتقنه جلال خوري إلى درجة شعر المتفرج أن ما يراه أمامه على خشبة المسرح لا ينفصل عما يراه في حياته  اليومية ويتعايش  معه مكرهاً.

من خلال هذه الشخصيات يعطي جلال خوري صورة عن العظماء الذين يكونون عادة ضعاف النفوس ويتكلون على الغيب ويبتعدون عن المنطق، تتحكّم بهم الأنانية والسذاجة... ومن خلال الأحداث يعكس الحال عند اؤلئك الذين يطمحون للوصول إلى السلطة بأي ثمن. وهنا يتفق جلال خوري مع شكسبير في وصفه لشغف السلطة بالقول إنه أقوى من شغف المال، ويكبل الشخص لأنه امتداد لشخصيته، أي القدرة على التحكّم بالآخرين، وغالباً يعاني الذين يخسرون معركة السلطة أو يخرجون منها لافتقادهم الشعور بلذة السيطرة...

على مرّ تاريخه ومنذ عهد الفنيقيين شكل  هذا البلد فسيفساء مدن، واليوم يشكل فسيفساء طوائف، في الماضي كان الحاكم الفنيقي يستنجد بالفراعنة واليوم تأتي كلمة السر  من أميركا، يصوّرها جلال خوري في المسرحية على شكل إشارات تصدر من السفير الأميركي... كل ذلك ليبرهن بأن السلطة في لبنان لا تُكوّن داخلياً إنما تُصنع في الخارج، وبأن المعطيات الداخلية مهما بلغت قيمتها  لا تؤلف السلطة، إنما ثمة ما يشبه اليانصيب، فقبل أميركا في أربعينيات القرن الماضي والخمسينيات وصولا إلى السبعينيات كانت كلمة السر في يد الإنكليز ثم الفرنسيين... وكل ما يفعل اللبنانيون  هو الانتظار ريثما يتبلغ النواب كلمة السر فيتهافتون على المجلس النيابي ويضعون في علبة الاقتراع الاسم الذي تبلغوه. انطلاقاً من هذا الواقع لا يكلف المرشح للرئاسة نفسه عناء إصدار بيان للشعب يعلن فيه ترشيحه...

تعامل جلال خوري  مع هذه الحالات من خلال  إبراز التناقضات النفسية لحالات فردية،  باعتبار أن المسرح ليس منبراً خطابياً، بل عمل انتقادي، فجاءت «فخامة الرئيس» بمثابة كوميديا تبرز كيف أن البعض يستغل السلطة للتعويض عن نقص ما أو ضعف ذاتي، خصوصاً أن للمسرح تاثيراً على مستوى النفوس، من هنا لاعجب أن تحتوي المسرحية عبثية منبثقة من عبثية الواقع والجنون  المستحكم في ذهنية الناس، هذه العبثية بالذات جعلت فتاة من خارج اللعبة (ابنة المرشح للرئاسة) تشهد على هذا العالم الذي جنّ فجأة وتدرك بعمق حقيقة كل شخصية.

وجوه لا تتغيّر

 

كأن قطار الزمن لم يتجاوز محطات الأيام منذ 1988 حتى اليوم، وكأن الوجوه لم تتغير مع أن خطوطاً حفرت فيها تنبئ بأن السنوات مرت عليها وتركت فيها أثار أفراحها وأحزانها... فجلال خوري أواخر ثمانينيات القرن العشرين هو نفسه جلال خوري 2015، لا شيء تغير في مشاهد مسرحيته وفي شخصياته، لا سيما في مستلزمات المشهد السياسي، وقد  أضفت عليه سينوغرافيا بول غوسيان، مزيداً من السخرية الكاريكاتورية، التي ترمز إلى أن وراء الرجل العصامي الذي صنع نفسه بالاحتيال والزوجة التي تود التشبه بزوجة رئيس جمهورية أميركا،  الكثير من الوجع والكثير من النزف في واقع لا يتطور بل يستمر في نمطيته رغم تعاقب الأجيال... وربما يجدر التساؤل هنا، لماذا لا نتعظ من التاريخ؟

بحس المدرك للعبة السياسية وصناعة الرؤساء، يضع جلال خوري أمام المشاهد خلطة قوامها المال والاحتيال والكذب والممالقة والمداهنة واللعب على الحبلين، في صالون «البيك» كل شيء معدّ للانتخابات، والهدف من كل ذلك أن يقول للناس مرة جديدة: «استيقظوا حان لهذه اللعبة أن تنتهي،  وتخلصوا من هؤلاء الطامعين إلى السلطة الذين أقل ما يقال عنهم إنهم آفات بلي المجتمع بهم».

هذا الواقع الذي يثير الاشمئزاز هو ذاته الذي أراد جلال خوري  تصويره على المسرح، من خلال تركيبات نفسية لشخصياته وكلمات تتكرر في الحوار، وهذا طبيعي طالما ألا شيء جديداً تحت الشمس يمكن أن يقلب الطاولة على من عليها...

لماذا اعاد جلال خوري عرض «فخامة الرئيس»؟ هل هو خائف على الوطن ، هل يشتم رائحة ضياع كرسي الرئاسة، فدق ناقوس الخطر من خلال مسرحيته التي لم يضف إليها الكثير في نسختها 2015؟... كل ذلك وأكثر، فجلال خوري الذي سئم التصنع وحب الظهور والمجتمع الخامل الذي ينتظر الخارج ليقرر مصيره، غاضب من عدم النضج والعجز عن الإمساك بزمام الأمور، فأطلق صرخة مدوية على لسان أبطال مسرحيته، علّه يحرّك الركود السياسي والاجتماعي، وينعش في النفوس رغبة في التمرّد على الاستسلام وبناء وطن حقيقي وإنسان حر غير مرتهن للعبة الأمم الكبيرة.

يذكر أن  العرض الأول لـ «فخامة الرئيس» على خشبة مسرح «لاسيتيه – جونيه» (يوليو 1988) شارك فيه الممثلون: فيليب عقيقي،  جوزف طراب، اسعد حداد، كاتيا أبو دامس، فاديا معلولي،  ورد الخال.

عام 1994 ترجمت ماريا غنما المسرحية إلى الأرمنية وقدمها ممثلون من مسرح {مترويريفان} إخراج نيقولا ذادوريان على مسرح {دير بوغوسيان - برج حمود}. 

بين الطموح والظهور

تحت عنوان «الإنسان بين الطموح والظهور» كتب جلال خوري في 1988: «أوليس الطموح إلى السلطة، بشتى مظاهرها، كما حب الظهور، نوعاً من أنواع التعويض عن نقص ما في شخصية الإنسان؟ القناعة لديّ لا يوافق عليها أساتذة علم النفس، إلاّ أنها تلقى بالتأكيد صدى عند أصحاب الحكمة العريقة وأبناء المعرفة الدهرية».

أضاف: {على أية حال، يكفي أن ننظر من حولنا لنتعرّف عن قرب إلى أولئك الساعين إلى السلطة، وما أكثرهم، السلطة إن بواسطة المنصب، أو المرتبة، أو وسائل التأثير، أو المال، أو حتى الجمال... {مسرحية {فخامة الرئيس} ليست محاولة لتجسيد فكرة، أو موقف، أو نظرة أخلاقية عبر استخدام الأساليب الفنية، إنها بالأحرى صياغة جمالية لظواهر اجتماعية وذهنية بشرية نعانيها كل يوم}.

من هنا يمكن القول إن نص جلال خوري يبقى صالحاً في كل زمان ومكان، ولا ينتهي مع إسدال الستارة بل يستمر متفاعلا في النفوس، لأنه  يعري الواقع ويضع إصبعه على الجرح النازف أبداً في خاصرة الوطن، بجرأة العارف الخبايا والأسرار، كل ذلك من خلال حوار عميق ولعبة مسرحية عرفت كيف تمزج بين  عالمي المسرح والواقع، من دون الوقوع في فخ الابتذال، ولا عجب في ذلك، فجلال خوري أحد أبرز رواد المسرح الحديث إلى جانب كبار من أمثال منير أبو دبس وريمون جبارة وأنطوان ولطيفة ملتقى وأنطوان كرباج... هؤلاء صنعوا الحركة المسرحية اللبنانية، ويحرص جلال خوري على استمراريتها رغم ما يعتري المسرح اليوم من أعمال مبتذلة. لذا مسرح جلال خوري لم يتوقف عند لحظة معينة بل هو متجدد باستمرار يصوغ الواقع برمزية حيناً وبمباشرة حيناً آخر، ضمن رؤية عميقة تغوص في جذور الكيان والانتماء، وترسم هوية خاصة لمسرحه من دون أن يفقد تواصله، بالطبع، مع التجارب المسرحية الرائدة من مسرح برشت وصولا إلى المسرح اليوم...