المرة الأولى التي التقيت فيها فيصل الحبيني كان لقاء سريعاً، تبادلنا فيه سلاماً عابراً، ثم افترقنا حتى التقيته مرة أخرى بمعرض الكتاب العربي في الكويت العام الماضي، وقد منعت الرقابة عمله الأول، وأطفأت فرحته الأولى، كما فعلت مع عبدالوهاب الحمادي الذي انتصر على الرقيب وهو يُرشح الآن لـ "البوكر"، وكما فعلت مع عبدالله البصيص ودلع المفتي، وكما ستفعل مع آخرين ترى الرقابة في كتاباتهم، ما لا يتماشى مع الذهنية القديمة التي تعيش فيها.

Ad

حين تحدثت إليه للمرة الأولى، كان الحبيني يحدثني عن توماس بينشون وكيرت فونيجيت، قلت له: حسب ما أعلم لم تترجم لهذين الكاتبين أعمال إلى العربية، فردّ: أعلم ذلك، أنا أقرأ الأعمال بلغتها الأصلية.

كان الشاب صغير السن، وبدا لي أن من يتحدث إليّ رجل تجاوز الثلاثين من عمره على الأقل. كنت أخذتُ نسخة من عمل فيصل الحبيني "كائنٌ يمرح في العدم"، وأنا في معرض الشارقة، ولم أكن قد قرأتها بعد.

في بداية القراءة الأولى أصابني نوع من الفرح، وانتهى بغيمة من الحزن، وأنا أتابع مصير هذا الكائن المفعم بالألم الوجودي، الكائن الذي يشبه رجلاً من قمر مضيء، يطلّ على البشرية ويرسم همومها بدقة متناهية.

أصابني الفرح، لأن الكتابة التي اختارها الحبيني ليست مكررة في الأجناس الإبداعية الأخرى، هي ليست سيرة ذاتية، وليست شعراً، أو رواية، أو نصّاً يمكن أن يتمثله الآخرون، ويكتبوه بشكل آخر.

هو نصّ لا يشبه إلا ذاته، وما يمكن أن نطلق عليه "جانرا" لم يتعرف عليها الأدب الكويتي من قبل.

ولأن هذا العمل فلسفيّ بالدرجة الأولى، يصعب علينا الدخول إليه لنفسره خشية أن نفسده ونخدش المتعة التي تصلنا بالقراءة المباشرة أو محاولة تفسير أسباب هذه المتعة. كل فكرة أو فقرة هي جهد ذهني قائم بذاته، رغم أن أغلب ما يقدمه الكاتب إلينا، ممارسات يومية لا ننتبه لها عادة، ولا نعيرها الاهتمام، الا أن محاولة إخراجها من سياقها الحياتي إلى السياق المعرفي، جديرة بإعادة التفكير.

"عندما مات والدي...في اليوم التالي حذرونا من الحزن عليه، لأن الحزن لن يجلبه، ولكني لم أكن حزيناً لأنه ذهب، بل حزنت لأنني بقيت، هو أحسن مني حالاً، مهما كان شكل الضفة الأخرى، لقد اصطفاه الموت من بيننا، ليخلصه من عبء أن يوجد. ثمة حسد عميق يحمله الحي للميت، ولهذا يحزن ويبكي".

يختار الحبيني أفكاره "القوية"، ليعيد أسئلة الكينونة وعبثية البقاء،لا يجبرنا على تبني فكرة ما ولكنه أيضاً لا يتركنا نتخلص من فكرته، دون أن نعيد أسئلة أخرى لم يطرحها، ولم ننتبه إليها لولا تلك الإثارة. إنه يدخلنا الحياة بأسئلتها القاسية والمريعة ويلوّن الأحلام بغير ألوانها، ليخرجنا إلى العدم.

كان ذلك الرهان الثالث من حصيلة الأعمال المهمة والمؤثرة للشباب الخليجي الذي يكتب بقدرة عقلية تفوق سنه وخبرته المعرفية. نحن أمام جيل مختلف سعداء به، وبالاحتفاء بأعماله، الجيل الذي نعوّل عليه كثيراً. لأنه لم يلتفت إلى جمهور غفير زائف وزائل، ولا أعداد النسخ التي توزع أو كثافة المعجبين والمعجبات، إنما إلى الكتابة والكتابة فقط، ولهذا كان رهاننا وسيبقى.