أشد ما يؤخذ على التطرف العلماني، أنه لا يخدم فكر الدولة المدنية، بل على النقيض من ذلك يسلبها أهم أسلحتها، في حربها المقدسة ضد إرهاب الدولة الدينية، لأن القول بأن الأديان جميعاً لا تعرف التسامح، بل تأمر بالقتل وسفك الدماء، يضفى الشرعية على كل ما يرتكبه تنظيم "داعش" من جرائم قتل ونحر وسفك للدماء وإبادة جماعية.

Ad

 التسامح والسلام في المنظور الدستوري

أستميح ملتقى مجلة العربي الذي عُقِد في الكويت منذ أيام عذراً في أن أبتعد قليلاً عن المعنى اللغوي لكلا الاصطلاحين، وعن المنظور الأخلاقي لهما، باعتبارهما من القيم الأخلاقية، إلى المنظور الدستوري والقانوني، في أول مفرداته وأبسط تصور له، وهو أن التسامح اعتراف بالآخر، وأن قبول الآخر هو ما يتحقق معه السلام، إذا كان هذا القبول جزءاً من نسيج المجتمع، تكفله الدولة بالقوانين التي تسنها.

وفي هذا السياق، يعتبر دستور الكويت دستور التسامح، فهو– كما جاء في وثيقة التصديق عليه- يرسي دعائم ما جُبِلت عليه النفس العربية من اعتزاز بكرامة الفرد، والناس تحت مظلته– وفقاً لنص المادة (29)- سواسية في الكرامة الإنسانية، ولا يعرض أي إنسان للتعذيب أو للمعاملة الحاطة بالكرامة، إعمالاً للمادة (31)، فضلاً عن ورود الأغلب الأعم من الحقوق والحريات الأساسية في هذا الدستور للإنسان مطلقاً، فالناس متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين إعمالاً لأحكام المادة (29).

وحرية الاعتقاد مطلقة لكل إنسان (مادة 35) ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما، وحرية المراسلات البريدية والبرقية والهاتفية مصونة، وسريتها مكفولة (مادة 36)، وحرية تكوين الجمعيات والنقابات مكفولة (مادة 43) وللأفراد حق الاجتماع (مادة 43)، وحق التقاضي مكفول للناس (مادة 166)، بما في ذلك تداعي الأفراد أمام القضاء الدستوري لإلغاء القوانين غير الدستورية (مادة 173)، ولا يجوز القبض على إنسان أو حبسه أو تفتيشه أو تحديد إقامته أو تقييد حريته في الإقامة أو التنقل إلا وفق أحكام القانون.

دور المؤسسات في نشر التسامح

وفى سياق ما تناوله د. أحمد السيد النجار في محاضرته القيمة القصيرة عن دور المؤسسات في نشر مفهوم التسامح والسلام، ركّز على دور الأمم المتحدة الغائب في إعادة توزيع الثروات في العالم، لتحصل القارة السمراء على نصيبها العادل من الناتج القومي العالمي، وهي القارة التي نهبت الدول الغنية ثرواتها، أثناء احتلال أراضيها، وساقت أبناءها إلى أميركا وغيرها ليعملوا فيها عبيداً لدى الجنس الأبيض، وأن من حق شعوب هذه القارة أن تحصل على تعويض عادل من هذه الدول التي أثرت على حسابها، عن الأضرار التي لحقت بها طوال القرون الماضية، واعتراضه على "الفيتو" المقرر للدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن، متعجباً من هذه المفارقة، وهي أن تحمل المؤسسة الدولية رسالة نشر الديمقراطية وإعلاء حقوق الإنسان، وهي مؤسسة غير ديمقراطية.

وفي هذا السياق، يبدو لي أن للمؤسسات الوطنية في كل دولة دوراً مهماً في تحقيق التسامح والسلام الاجتماعي من خلال تنقية القوانين التي تعج بالتعصب ضد الآخر أو رفض الآخر.

وفي السياق ذاته، أعتقد أن السلطة التشريعية في الكويت مطالبة بتنقية القوانين من ذلك، وعلى سبيل المثال قانون الجنسية وقانون تنظيم القضاء اللذان يرفضان غير المسلم في الحصول على الجنسية أو ولاية القضاء. كما أنها مطالبة كذلك، بإعادة النظر في قوانين العمل وجمعيات النفع العام والأندية، لتصحيح خطأ كبير وقعت فيه هذه القوانين، وهو قصر الحق في تأسيس هذه الجمعيات والأندية أو الانضمام إلى العمل النقابي على الكويتيين، وهو ما يمثل رفضاً للآخر.

وهي قوانين وقعت في حومة مخالفة أحكام الدستور، وإن النائب المحترم نبيل الفضل قد أقام أمام المحكمة الدستورية طعناً بعدم دستورية النص الوارد في قانون الجنسية، لإخلاله بمبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور.

إنكار دور الدين

وبقدر ما استمتعت بالمحاضرة القيمة للمفكر الكبير د. يوسف زيدان، فإنني أختلف معه في ما قاله من أن أي محاولة لإقامة فكر التسامح على الدين، هي محاولة فاشلة، وهو ما أثار أكثر من تعليق من عدد من الحاضرين اعتراضاً أو طلباً للإيضاح.

وقد رد على هذه التعليقات بما يؤيد فكره العلماني الرافض لأي دور للدين، في حياة الشعوب والأمم، وإن كلها ترفض الآخر، حتى الديانة المسيحية نالت نصيبها من هذا الاتهام، لأنها أول ديانة يرد فيها الجهاد في سبيل يسوع في إنجيل متى، دون أن يورد أين ورد هذا النص، والسياق الذي ورد فيه، ومع ما هو معلوم من أن جوهر الديانة المسيحية هو التسامح، إلا أن أشد ما يؤخذ على هذا التطرف العلماني، أنه لا يخدم فكر الدولة المدنية، بل على النقيض من ذلك يسلبها أهم أسلحتها، في حربها المقدسة ضد إرهاب الدولة الدينية، لأن القول بأن الأديان جميعاً لا تعرف التسامح، بل تأمر بالقتل وسفك الدماء، يضفى الشرعية على كل ما يرتكبه تنظيم "داعش" من جرائم قتل ونحر وسفك للدماء وإبادة جماعية.

الأصولية المتشددة

وكما أسعدتنا الأستاذة الدكتورة سهام الفريح بأطروحتها عن الفكر الأصولي المتشدد، ودور الدولة ودور المؤسسات، ومنها التعليمية في محاربة هذا الفكر وتصويب مفاهيمه، فضلاً عن مساهمتها مع آخرين بالوقت والجهد والعمل الدؤوب لتنقية الكتب المدرسية من شوائب هذا الفكر، وإعداد مناهج تعليمية تربي النشء على التسامح والسلام الاجتماعي، والقيم الأخلاقية الرفيعة.

ومع تقدير، دون بخس، للدور التربوي في المدارس، وأن هذا الدور، باعتباره عملية تعليمية اجتماعية إنسانية، يحتل مكاناً بارزاً ومؤثراً في كل المجتمعات، لأنه يبدأ مع الشخصية الإنسانية منذ مرحلة الطفولة، وهي لا تزال مادة خاماً قابلة لتلقي ما هو خير، بما يشكل هذه الشخصية في مسيرة الخير والعطاء، ويبعدها عن مزالق الشرور والتطرف والانحراف، إلا أن هذا الدور رغم أهميته، يظل عاجزاً عن مواجهة فكر الإرهاب والتطرف، الذي يبرر كل جرائمه البشعة بأنه في سبيل إقامة دولة إسلامية تطبق شرع الله.

ولا ريب أن تطبيق شرع الله هو هدف نبيل، ولهذا يجد قبولا لدى كل من تربى على التسامح والقيم الإسلامية الرفيعة، وهو مستعد للتضحية بحياته في سبيل تحقيق هذا الهدف، لأن أحدا لم يناقش هذا الهدف في ضوء الدساتير والقوانين الوضعية التي تطبقها الدولة المدنية، ليظل مبهما وغامضا حتى مع من يحملون دعوته تحت شعار رفعوه: "القرآن دستورنا والإسلام هو الحل".

وأختم مقالتي بتهنئة مجلة العربي ورئيس تحريرها الدكتور عادل سالم العبدالجادر بملتقاه الرابع عشر، وبالموضوع الذي اختارته له وهو التسامح والسلام.