يبدو الشاعر حبيب يونس في قصيدة ديوانه الأخير «نيسان يمرُّ بنا قُبَلا» الأولى محترفاً التطرُّف العاطفيّ، فهو لا يرضى بمقولة «النصفَين» في الحبّ، فإن لم تكن أنثاه كُلّاً يملأ الرجل الذي فيه تكن أنثى لتملأ الرجل في رجل آخر، إذ إنّ يونس لا يضيّع وقته في الحبّ ليعدّ الأنصاف على أصابع قلبه إنّما هو يَنشُد حُبّاً يُدَلُّ عليه بالإصبع ولا يعدّ عليها: «أنا ما كنتُ نصفكِ، لم تكوني/ كأن نصفان تجميعاً ورصْفا / كمثل شعاعةٍ عشناه كُلّاً/ فَخَلّي عنكِ تشبيها ووصْفا/ لأنّا واحد جسداً وروحاً/ فكيف يكون هذا الكلُّ نصفا؟».

Ad

 وحين تقول عينُ الحبيبةِ دَمعَها، يفتح يونس الدمعة بأصابع عاشقة، فيرى في واحدة ناراً يعيش الحبّ على نارها، وفي أخرى وردتين لا تشربان الدمع ماءً إنّما تستوطنانه فتحظيان بعمرٍ أطول من عمر على غصن: «قلتُ: ما ذا الحزنُ؟ قالت: دمعتانْ/ دمعةٌ نارٌ... وأخرى وردتانْ/ ليتني حين تولّى مدمَعٌ/ صار مجرى النهر صدري... واليدانْ».

 ومع الحبّ يمضي يونس مُسْقِطاً عن ظهره هَمَّ إعلانِه، طالما أنّ القلوب أجراس لا تنفكّ تقرع حُبّاً، ولا يزال يطلع من رَنينها رحيقُ رَجلٍ وامرأة يعدّان ريش أجنحتهما في أعشاش الحنين: «نحبُّ والعمرُ حُبُّ/ إليه نرنو ونَصْبو/ وليس في الأمر سرٌّ/ ما دام يخفق قلبُ».

 وبالحبّ يبني الشاعر أسوار فردوسه بالقلوب، والحبّ اليونسيّ يعادل الوجود على مستوى الخيار، وقد تكون معادلة: أنا أحبّ إذن أنا موجود هي الأصحّ والأطول عمراً: «إنّ الحياة خيارٌ/ نحبُّ أو لا نحبُّ».

 ويعرف يونس أنّ الحبّ بلا جسد سحابة لم تبلغ بعد سنَّ المطر، لذلك، هو يحمل الورد مفاتيح لأبواب الجسد، طمعاً بالقبض على عطر سرِّه، وبإذابة الشفتين على شطآنه بكلّ ما في نزقهما من جَزرٍ ومَدّ: «وملكتُه سرّ الجسدْ/ في لحظة ثغري الأبدْ/... خمَّعتُ في شطآنه الشفتين/ من جَزرٍ ومَدّْ».

 وأمام امرأة لا يزال العمر طريّاً في جسدها، ولا يزال الوقت في أوّل كلامه وهو يدلُّها على الأنثى التي فيها، يقف يونس محاولاً إقناعها بعدم القفز عن شرفة الطفولة إلى بحيرة الحبِّ المُسيّجة بأشواق الجسد، وبتخبئة نيسانها عن العمر: «أهواكِ والعمر غفلَه/ لا تكبري العمر كُلَّه/ دعيه لا يشتهي/ من نيسانك الغضِّ فُلَّه»، وإذا كان ما يطلبه الشاعر مستحيلاً، فإنّه سيكون في المقابل الحبيب الذي يشتاق بعد أن يشتاق، ويأتي بعد أن يأتي، مُعوِّضاً بِسلالِ قُبلِه وقوافيه عن كلِّ رجلٍ لا يزور مساءً وفي شفتيه قبلة، وعن كلِّ رجلٍ يُخبِّئُ كلمته في صدر الغد: «ولا تخافي مساءً/ يرحلُ من غير قُبلَه/ أو تحزني إن حبيبٌ/ خبّأَ للغدِ قولَهُ/ ...أنتِ – وحقِّ الهوى – لي/ وأنا أهواكِ طفلَه».

نفس طويل

 ويبدو نَفَسُ يونس طويلاً مع الأوزان القصيرة، وعلى قدرة في ملءِ البيتِ الشّعريّ بعيداً عن الحشو، كما أنّه يبدو خبيراً عتيقاً في اختيار القافية التي في آخر البيت كما القبلة في آخر العناق. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ لغة يونس الفصيحة ترتاح لها الحياة أكثر من القاموس الذي لا يستطيع أن يتبرّأ منها.

والحبّ عند يونس يقيم بين قلب ومحبرة، كأنّه يحبُّ امرأة في قصيدة، أو قصيدة في امرأة، فلكلِّ ارتحال في حبيبة خيمة على شاطئ القوافي، ولكلِّ جزرٍ في الهوى مدٌّ على الورق: «والبحر أنتِ... أحبّه سفراً / ومدى يعانق شوق محبرتي/ بالشّعر كم رويت صفحَتَه/ وقصائدي... لا بعدُ ما ارتوَتِ». وفي هذا السياق الطاعن في الحبّ، يعلن الشاعر أنّه الشّعر في الحبر، والحبر الذي يرتاح عباءة على كتفي القصيدة في آنٍ واحد، وأنّ له من القُبل ما يسكن عراء الكلمة والقافية، إلى حدّ جعله يتنازل عما فيه من لحم ودم ليتقمّص السطر مشتاقاً إلى مثيله: «قل ما تشاءُ، أنا في حبركَ الشّعرُ/ ما أنت تكتبني، قد صارني الحبرُ/ عَرِّ الكلام، القوافي، مُرَّ بي قُبَلاً/ تجدْني السّطْرَ مشتاقاً له السّطرُ». وحين يعتمر فردوس الحبِّ نارَه، ينفض يونس كفّه من الدنيا وتصير حدود سمائه حدود شفتين لا تريان النعيم إلّا في ألّا تتوبا، وهكذا ترتدي الجنَّة لَهَباً يزيدها جمالاً ويسكب في كؤوسها الفرح الأزرق: «قرِّبي بعدُ شفاهاً/ حسْبنا ألّا تتوبي/ لن أبالي إن تولى/ جنّتي مجدُ اللهيبِ».

ولأنَّ صوت المطربة ماجدة الرومي «يمون» على الشَّعر أعاد حبيب يونس كتابة قصيدة «سفر» لتصير ذات أجنحة تلائم فضاء الصوت، وأمانةً للتاريخ الذي يحييه رنينُ القوافي أورد الشاعر القصيدة «سفر»، والقصيدة الأغنية «لن أعود» في ديوانه، ومن اللافت أن «سفر»، القصيدة الكلاسيكية، تقول للشّعر ما لا تقوله القصيدة «لن أعود»، التي تعطي الأغنية، ربّما، ما لا تعطيه قصيدةٌ يوم كُتبَتْ وحَطَّت قوافيها على كتف قلم يونس لم تكن تعرف هي نفسُها أنّها ستتوَّجُ بذهب الصوت.

 ويستمرّ يونس شاهراً قلبه سيفاً حين الحبّ غمد، ويضع سلّة أيّامه عند قدمَي حبيبته لتملأها بما في يديها من فصول: «لكِ الأعمار يا قدري الخجولا / فكوني الخصْبَ وابتدعي الفصولا»، وينتظر أن يجود عليه الحبّ بموسم الوجع الجميل: «ويورِقُ في حقولي الحبُّ آخاً/ تفجِّر من دمي الأشواق «نِيلا»، ويتسّع ليمسي جبينه سهلاً لسنبلة واحدة هي الشمس، ويدُه حقولاً تحتضن غلال الخير، وزنده برجاً يرتاح عليه الرّعد، وصدره ساحة لا يرقص فيها سوى الريح: «وأشرع جبهتي للشمس سهلاً/ وقلمي موسماً ويدي حقولاً/ وزندي متّكًا للرّعد دهراً/ وصدري ملعباً للريحِ جيلا»...

 في «نيسان يمرُّ بنا قُبلاً»، وشم حبيب يونس الحبّ والجمال على صدور القوافي.