حين نقرأ أن الروائي الأميركي جيمس باترسون يجني 300 ألف دولار من نسخة من روايته، يتعيّن علينا أن نلاحظ حقيقةً تقول إن معظم الكتَّاب العرب، مقارنةً بالكاتب الأميركي، يعيش تحت {خط الفقر}. حتى إننا نقع في {حيص بيص}. هل نسخر من واقع الثقافة العربية؟ هل نعترف بأهمية الطباعة والنشر هنا؟ هل نضحك إزاء عبارة {الأكثر مبيعاً} في العالم العربي، وتجاه حفلات توقيع الكتب؟ وماذا عن الجوائز الأدبية العربية التي طالما اعتبرنا أنها تُحظي الفائز بها بالمال الكثر فتتبدَّل أحواله الرثة، أو المتواضعة؟

Ad

لا شك في أن باترسون المعروف بروايات تحاكي علم النفس الخيالي، يعيش في عالم آخر. التأليف بالنسبة إليه شأن مختلف. لعله لا يتمسَّك بطقس ما، وبعيد تماماً عمَّن يمتطون قلماً وورقة بيضاء ويلاحقون شخصيات فيتقمصونها. بل يمارسون نوعاً من جلد الذات لإخراج الأفكار من {رأسهم}، ويأخذ من عمرهم إنجاز رواية سنوات.

باترسون أقرب الى {مَشْغَلٍ}، أو مصنع كتابة. هو ربما مجرد مدير {مكتب كتابة} يدرّ في السنة ثلاثَ روايات أو أربعاً، فيبيع منها ملايين النسخ، ويجني من ثمّ ملايين الدولارات. وفيما يكتفي معظم الكتّاب العرب بنشر غلاف إصدارهم الجديد على صفحاتهم الفيسبوكية مع صور حفلة التوقيع، أو تأخذ الكبرياء بالبعض حد ضرب هذا {التزلف} إلى القارئ (كما يسميه) عرض الحائط والإعراض عنه، يُفاجئك موقع باترسون الإلكتروني الرسمي بنوافذه وأبوابه وألوانه. حتى إن المؤلف لم يتوان عن الظهور في فيديوهات والتقاط صور له مرتدياً أزياء بعض أبطال أعماله.

 

 خبير تسويق

أحد أثرياء العالم، بحسب مجلة {فوربس}، صاحب سلاسل شهيرة كثيرة أبرزهاWomen's Murder Club  Alex Cross, Maximum Ride Forever، وروايات أخرى منها الرومانسية ومنها الشيقة. خاض باترسون في الكتابة بعدما تقاعد من وظيفته في شركة إعلانات. شرع بها كهواية وهو في الخمسين من عمره. اختار نصوصاً لافتة متنوعة: بوليسية (جريمة وإثارة) ونفسية، وخيالية، فنتازيا. منذ دخوله عالم النشر في عام 1976، حاز المركز الأول ضمن لائحة {نيويورك تايمز} للروايات الأكثر مبيعاً 19 مرة متتالية، وفي اللائحة والمركز نفسيهما تربَّع 67 عنواناً في الخيال من ضمن 95 رواية للمؤلف، ومن ثم سجّل الأخير في {غينيس} رقماً قياسياً في عدد مرات حيازته المركز الأول...

فاق مبيع روايات باترسون الثلاثمئة مليون نسخة حول العالم. في عام 2011، طرح 14 رواية دفعة واحدة تنوع مضمونها ما بين الخيال العلمي والإثارة، ولاقت رواجاً لدى الشباب. كذلك عرض أحد أعماله الأدبية على شاشة السينما بعنوان (Alex Cross 2012)، من بطولة تايلر بيري، حيث حقق الكاتب أرباحاً بلغت 90 مليون دولار.

كان باترسون يعمل تنفيذياً في مجال التسويق واستفاد من خبرته السابقة في تسويق مؤلفاته لتكون ضمن أفضل الكتب مبيعاً في العالم بعد تقاعده في العام 1996. وراح المؤلف يتبرع من ثروته الضخمة للمكتبات، فأعلن عن برنامج يقدم بمقتضاه مئة ألف دولار لعشرات المكتبات، والسماح لها باستثماره في التجديدات وتخصيص مكافآت لموظفيها وتوسيع برامج التوعية بمحو الأمية. قال: {أريد أن يدرك الناس ويشاركوا في ما يحدث؛ فظهور الكتب الإلكترونية إما أن يكون نعمة وإما أن يكون نقمة. كثير من مكتبات الولايات المتحدة معرض للخطر. وصناعة النشر والناشرين ليست في أحسن حال. وإلى حد ما فإن مستقبل الأدب الأميركي نفسه على المحك}.

كذلك أطلق باترسون مبادرة لا نظيرة لها، إذ حرق عدداً من الكتب والروايات في محاولة لتشجيع الشعب الأميركي على القراءة، ولفت انتباه الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى مستوى ثقافة الشعب. حسبما ذكرت صحيفة {ذي غارديان} البريطانية، نشر باترسون تسجيلاً لأشخاص يقذفون بكتب داخل حريق، ويعلق عليه قائلاً: {يُغلق كثير من المكتبات ومحلات بيع الكتب، ولهذا يختفي الناشرون وقريباً سيختفي الأدب الأميركي}.

باترسون رائد في فكرته الأخيرة لا ريب، ولكنه ليس الكاتب الغربي الثري الوحيد. مثله ستيفن كينغ مؤلف رواية {11/22/63}، وهو باع أكثر من 350 نسخة من كتبه. وتطول اللائحة متضمنةً جي كي رولينغ صاحبة سلسلة {هاري بوتر}، ودان براون بـ {شيفرة دافنتشي}، المعروف باعتماده أسلوباً شيقاً ممزوجاً بطابع علمي وفلسفي حديث، إلى جانب الخيال العلمي والإثارة. أما أعمال الكاتبة الأميركية نورا روبرتس (1950) فتحتل مساحة دائمة في لائحة {الأكثر مبيعاً}، ووصل عدد رواياتها الرومنسية إلى 209 روايات، محققةً بأسلوبها الرومانسي أرباحاً طائلة وصلت إلى 23 مليون دولار في الأشهر القليلة الماضية. رومانسياً أيضاً وبترجمة إلى أكثر من 28 لغة، عُرفت الكاتبة والروائية الأميركية دانيل ستيل، ويتصدَّر معظم رواياتها قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في {نيويورك تايمز}، ووصلت مبيعاتها إلى 500 مليون نسخة محققة في الفترة الأخيرة 22 مليون دولار.

في العالم العربي لم يصل أي كاتب إلى {فوربس}، وربما لن يصل إلا إذا كان أجداده أصحاب ثروة ورثها عنهم، والكتابة بالنسبة إليه لزوم الـ{مكانة} الاجتماعية والهيبة، فيما يشتري له ماله المديح والترحيب. حتى أحلام مستغانمي {الأكثر مبيعاً} بلغتها البسيطة، أو ربما الساذجة، التي تخاطب المراهقين، تبقى أرقام مبيعاتها خجولة جداً مقارنة ببعض الكتاب الغربيين.

الكاتبة التي أصبحت في موضع تُحسد عليه، لا نتحاشى الحقيقة في قولنا إن كتبها لم تجمع لها ملايين الدولارات، فحتى لو تناست أن تدفع للناشر والموزع وصاحب المكتبة مستحقاتهم، هي لن تصبح ثرية على الطريقة الغربية الأقرب إلى {الهذيان}، حيث تخال أن الكتب لدى المؤلفين أقرب إلى آبار النفط. هي سلعة لها بورصتها ومكانتها وصورتها الرومانسية، إذ ترى القراء ينتظرون كتابهم المفضل على أبواب المطابع.

لا يحصد الروائيون في العالم العربي الثروات جنى كتاباتهم. حتى الأكثر مبيعاً منهم، حصلوا على هذه {الفرصة} لأنهم تطرقوا إلى مواضيع {مستورة} أو {فضائحية}، سواء رجاء الصانع (بنات الرياض) أو علاء الأسواني (عمارة يعقوبيان) أو يوسف زيدان (عزازيل)، وصولاً إلى الفائزين بالـ{بوكر} العربية. ولا حاجة إلى مقارنة الجهد المُستهلك لإنجاز الرواية بمدخرات مبيعاتها، لنصل الى نتيجة أن المال الثقافي لا يشتري من المائدة إلا الخبز والزيتون.

هذا إذا تناقض بين عالمين. ولكن يحسن بنا أن نفطن إلى أن ما يُحاك حول {ثروات} الكتب يحمل من {كذب} التسويق ملحاً. وأهمّ ما يجب أن يستوقفنا أن أرقام القرَّاء في العالم العربي لا تبعث على الطمأنينة.