رحلة الألف ميل (2)

نشر في 16-06-2015
آخر تحديث 16-06-2015 | 00:01
 يوسف عبدالله العنيزي تكملة للرحلة إلى غوايانا الفرنسية، فبعد أن قضينا يومين في سورينام، وفي اليوم المحدد لنا للمغادرة حملنا أمتعتنا وذهبنا إلى المطار، حيث فوجئنا بإلغاء الرحلة المقررة إلى مدينة "كايينا" عاصمة غوايانا الفرنسية، بسبب الإضرابات والمظاهرات، وهنا وصل الكرم السورينامي حده، حيث قامت شركة الخطوط السورينامية بوضع طائرة صغيرة تحت تصرفنا بإمكانها الهبوط بأحد المطارات الصغيرة خارج العاصمة كايينا، كانت الطائرة من الصغر بحيث إنها بالكاد تتسع لشخصين إضافة للطيار ومساعده.

نظر صاحبي إلى الطائرة وعاد بنظره إلي وقد اختفى دمه تماما من وجهه المتورد، وقال بشكل قاطع: "لن أركب هذه الطائرة حتى لو دفعوا لي احتياطي البنك المركزي الأميركي، ومناجم الذهب والألماس في إفريقيا، واحتياطي النفط في دول الأوبك، لست في عجلة للقاء أجدادي، وأعتقد أنهم ليسوا بشوق لي".

 في الواقع إني لم أكن أكثر شجاعة من صاحبي، ولكني حاولت أن أحتمي بجبنه، نظرت إلى السماء وقد تلبدت بالغيوم، واشتدت الرياح حتى كادت تقتلع الأشجار وبدأت الطائرة بالاهتزاز، وهي ما زالت قابعة على الأرض، وهنا سألت الطيار: وماذا عن هذا الجو فأجاب بأنه قد يتسبب بأن نفقد السيطرة على الطائرة لفترات قصيرة.

 ولكن من مزايا هذه الطائرة أنها تستطيع الهبوط في أي مكان، وهنا تساءلت: وماذا عن هذه الأدغال المتشابكة؟ إنها غابات الأمازون التي ليس لها نهاية، صحيح أن الطائرة أكبر قليلا من بعض الطيور، ولكني لا أعتقد أنها تستطيع الهبوط فوق الأشجار، أخيراً رضخنا لقرار صاحبي، وقررنا الذهاب بواسطة العبارة النهرية، ركبنا تلك العبارة التي أكاد أجزم أن السيد كريستوفر كولومبس قد أحضرها معه عند اكتشافه لهذه القارة.

 جلسنا في أحد الأركان وبدأت أنظر إلى الركاب، وقد حمل بعضهم على أكتافه أكياساً من البصل، وآخر وقد تدلت من يديه سلاسل من الثوم، ثم أقفاص من الطيور والحمام والدجاج والماعز وغيرها، حتى ظننت أني في سفينة سيدنا نوح عليه السلام، نظر إلي صاحبي قائلا: إن من ينظر إليك يظن أنك في مأتم، رددت عليه "وإني لكذلك، إنه مأتم ملاك شعري قد انتحر".

بدأت العبارة بالتحرك وهي تحمل أوزار عقود من السنين، وأخذت أقرأ بعض آيات القرآن الكريم، وبدأ صاحبي يشرح لي: هنا غرقت الباخرة الألمانية، وهناك اصطدمت السفينتان الأميركية والروسية، وهذه بعض الآثار الطافية على السطح حتى بدأ النهر وكأنه مأساة مرسومة بحطام بقايا السفن.

عبرنا النهر بسلام ثم استأجرنا سيارة أجرة لنقلنا إلى الفندق، وقد اعتذر السائق عن عدم تمكنه من دخول العاصمة وذلك نتيجة لقيام المتظاهرين بأعمال شغب، وعليه فقد اقترح صاحبي أن ننزل ضيوفاً لدى أحد أقربائه الذي يقيم خارج العاصمة.

كان المنزل قمة في الروعة، يقع على ربوة تحيط به حدائق غنّاء وأدغال غير مأهولة، وكل تلك الأراضي تقع ضمن أملاك هذه العائلة العربية الأصيلة التي هاجر رعيلها الأول منذ أواخر القرن التاسع عشر من ضيعة "زغرتا" في لبنان الشقيق، واستقر في هذه الديار بعيداً عن وطنه بجسده قريبا منه بقلبه ومشاعره.

في مساء اليوم التالي حضرنا عملية إطلاق الصاروخ الفرنسي "أريان" الذي حمل القمر الصناعي العربي "عربسات"، وكم شعرت بالفخر أن دولة الكويت هي الدولة العربية الوحيدة الممثلة في هذا التجمع العلمي الرائع، لقد كانت لحظات قلّ أن تتكرر في حياة الإنسان وهو يرى جبروت العقل الإنساني.

انطلق الصاروخ مخترقا الغيوم التي تحولت إلى كتل من اللهب، وأخذ مساره في الفضاء الخارجي، وعند لحظة وصوله إلى ارتفاع معين، وفي نقطة تقع بين قارتي إفريقيا وأوروبا انفصل القمر العربي، وبعد لحظات تلاشى الصاروخ محترقا في الفضاء، ما أعظم هذا الإنسان! وما أعظم العقل البشري عندما يستخدم العلم لخدمة البشرية! وقبل ذلك وبعده ما أعظم الخالق جلت قدرته، حيث قال "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً"!!

حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.

back to top