الأخطاء الشائعة عن «القوة الناعمة»

نشر في 10-05-2015 | 00:01
آخر تحديث 10-05-2015 | 00:01
 ياسر عبد العزيز ربما تنجح القوة الصلبة في إجبار الناس على تنفيذ القوانين، أو حتى دفعهم إلى الموت، لكن القوة الناعمة، المتمثلة بالتأثير العاطفي والإنساني وآليات الإقناع، قد تدفعهم إلى الذهاب إلى الموت راضين وسعداء، وهو أمر يعز على أضخم قوة صلبة في التاريخ أن تفعله.

لا يكاد يوم يمر من دون أن يتم استخدام مصطلح "القوة الناعمة" في المجال العام العربي، سواء كان هذا الاستخدام في وسائل الإعلام، أو أحاديث السياسيين، أو آراء المفكرين والمثقفين.

ورغم هذا الاستخدام المفرط لذلك المصطلح، يبدو أن الكثيرين لا يدركون معناه على النحو الصحيح، كما يبدو أيضاً أن شوائب عديدة لحقت به، وحرفته عن المعنى المقصود منه.

كنت في طريقي إلى مدينة الإنتاج الإعلامي بالقاهرة، حين صدح المذياع بالأغنية الصافية "والله إن ما اسمريت يا عنب بلدنا"، إذ كانت الإذاعة المصرية تبث لقاء قديماً مع الراحل العظيم عبدالرحمن الأبنودي، روى فيه تفاصيل كتابة تلك الأغنية وغيرها من الروائع، التي أنتجتها القريحة الإبداعية المصرية في حقبة الستينيات من القرن الماضي.

لاحظ السائق شغفي بالأغنية واهتمامي بحديث الأبنودي، لذلك، فقد حاول أن يشير إلى ذائقته الفنية بدوره، مثنياً على جمالها، ومذكراً بأن "المطرب" المعاصر سعد الصغير غنى للعنب بدوره أغنية "جديرة بالإعجاب".

حاولت أن أوضح للسائق اللطيف الفارق بين "عنب الأبنودي" و"عنب سعد الصغير"، لكنني لست متأكداً مما إذا كنت قد نجحت في ذلك.

بعد هذه الواقعة بيومين، كنت ضيفاً على مؤتمر يناقش مفهوم "القوة الناعمة"؛ حيث عرض بعض المشاركين في المؤتمر رؤيتهم المبدئية لهذا المفهوم باعتباره "مجموع المنتج الفني والفكري والإبداعي في أي مجتمع".

لم أجد أفضل من حكاية "عنب الأبنودي وعنب سعد الصغير" كبداية لحديثي في المؤتمر، لتشخيص الفارق بين ما يمكن اعتباره "قوة ناعمة" وما لا يمكن اعتباره كذلك.

"البروفيسور" الشهير في جامعة "هارفارد" جوزيف ناي هو من صك هذا المصطلح، وكان يقصد من خلاله تمييز القوة الشاملة للدولة إلى صنف "خشن" أو "صلب"، يتمثل بقدرتها على الإكراه لخلق المطاوعة، في مقابل صنف "ناعم" يتمثل بالقدرة على التأثير وتحقيق النتائج ذاتها من دون إجبار.

يرى "ناي" أن الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تمتلك أكبر قوة صلبة في التاريخ، متمثلة بترسانة أسلحتها الضخمة والمتطورة، وآلتها الدبلوماسية النافذة، واقتصادها الكبير، وقوانينها وسياساتها، لكنها مع ذلك تخفق أحياناً في خلق المطاوعة في سلوك دول أو شعوب أخرى، في حين تنجح حينما تفعل ذلك باستخدام فنها، وإبداعها، وقيمها المفترضة، وأسلوب حياتها الجذاب.

هنا بيت القصيد إذاً، فالإبداع أهم عناصر "القوة الناعمة"، لأنه يؤثر في العقول والقلوب، ويخلق المطاوعة والتجاوب من دون إجبار.

ستنجح القوة الصلبة أحياناً في إجبار الناس على تنفيذ القوانين، أو حتى ستدفعهم إلى الموت، لكن القوة الناعمة، المتمثلة بالتأثير العاطفي والإنساني وآليات الإقناع، قد تدفعهم إلى الذهاب إلى الموت راضين وسعداء، وهو أمر يعز على أضخم قوة صلبة في التاريخ أن تفعله.

ستجبرنا القوانين، وقدرة الدولة على استخدام أدوات القمع بطريقة مشروعة، على دفع الضرائب، لكن أغنية مؤثرة قد تدفعنا للتبرع بقدر كبير مما نملك راضين.

لكن ما علاقة ذلك بعنب الأبنودي وسعد الصغير؟

العلاقة ببساطة تكمن في ضرورة التفريق في الإنتاج الثقافي والإبداعي والفني بين الغث والسمين.

ليس كل عمل فني قوة ناعمة، ولكن الأعمال الفنية والإبداعية التي يمكن إطلاق هذا الوصف عليها يجب أن تكون منسجمة مع النسق القيمي للأمة من جهة، وأن تكون حقيقية وعميقة ومؤثرة من جهة أخرى.

كثير من الخلط يقع حين يتم حساب "القوة الناعمة" في أي مجتمع باعتبارها مجمل المنتج الفني والإبداعي وهو حساب خاطئ بكل تأكيد؛ إذ يجب خصم كل ما هو سطحي وتافه وغير أصيل من تلك الجردة.

البعض يعتقد أن لدينا "قوة ناعمة" بعدد الأغاني المنتجة، أو المطربين المعروفين، أو العاملين في المرافق الثقافية، أو دور السينما والمسرح، أو عدد قنوات التلفزيون والصحف المطبوعة... وهكذا.

يعد ذلك خطأ كبيراً، إذ يصرف التركيز عن الطاقة التأثيرية في المنتج الفني والإبداعي إلى الاهتمام بالأعداد والحساب الكمي. تقييم "القوة الناعمة" يتعلق بقدرتها على التأثير ولمس الوجدان، وليس بعددها ومقدار الصخب الذي تحدثه.

لا يمكن اعتبار أن العدد الكبير من الموظفين والفنيين والعاملين في وزارات الثقافة وقطاعات الفن والإبداع رصيد متاح لـ"القوة الناعمة"، إذ يتعلق الأمر فقط بما ينتجونه ويقدمونه للمجتمع والإقليم والعالم من أعمال وفنون.

ثمة خطأ آخر يقع دائماً حينما يتعامل بعضنا مع ذلك المفهوم؛ إذ يعتقد هؤلاء أن "القوة الناعمة" أداة في يد الأخيار، وأنها لا تُستخدم من جماعات الشر والإرهاب.

للأسف الشديد، فإن تنظيم "داعش" مثلاً يمتلك قدرة ملحوظة على استخدام "القوة الناعمة" على نحو فعال، وقد نجح بالفعل في تطوير أنماط أداء مؤثرة في هذا الصدد، وامتلك منصات إعلامية، وأناشيد، وأشعاراً، وأعمالاً ذات طبيعة فنية يمكنها أن تروج له وتخدم مقاصده وتؤثر في جمهوره وتخلق مطاوعة لديه.

"القوة الناعمة" مفهوم متاح للكل، وللأسف الشديد فإن بعض الجماعات الإرهابية تنجح نجاحاً كبيراً في تفعيله ليكون أداة استقطاب وتجنيد، يمكن أن تدفع المستهدفين إلى الموت وقتل الآخرين.

علينا أيضاً أن ندرك أن "القوة الناعمة" تبلى إذا لم تجدد وتُصن وتتطور، وأنها ليست امتيازاً تاريخياً لا يمكن ضياع أثره أو تجريدنا من ميزته.

فكثير من دولنا العربية يفاخر بماضٍ قريب أو بعيد كان يمتلك فيه وسائل "القوة الناعمة" وينجح في استخدامها في تعزيز قواه الشاملة، في حين الواقع الراهن لا يعكس سوى تراجع كبير في كلتا القوتين.

"القوة الناعمة" أيضاً لا تكفي وحدها لتحقيق الأهداف الحيوية للأمة؛ إذ يجب أن تسندها "قوة صلبة" تتكامل معها، لتخلق حالة منسجمة من الأداء العام المؤثر والناجع... وهذا الأداء بالذات هو ما عبر عنه "ناي" نفسه بمصطلح "القوة الذكية".

* كاتب مصري

back to top