مستقبل التسامح الديني في المجتمع العربي
طيب الله تعالى ذكرى زمن سئل فيه إمام التقريب بين المذاهب الإسلامية الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر: هل يجب على المسلم أن يقلد أحد المذاهب السنية الأربعة، وليس من بينها مذهب الشيعة؟فأجاب- رحمه الله تعالى- "لا يوجب الإسلام على أحد اتباع مذهب معين، بل لكل مسلم الحق في أن يقلد أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، ولمن قلد مذهباً أن ينتقل إلى غيره، ولا حرج عليه"، ثم أضاف مؤكداً "إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة".
هكذا كان علماؤنا الأجلاء متسامحين، وهكذا كانت مجتمعاتنا- قبل نصف قرن- متسامحة، فأين نحن اليوم من ذلك الزمن، زمن التسامح والمحبة والتعايش؟!نعم، كانت مجتمعاتنا في الماضي أكثر تسامحاً- دينياً ومذهبياً- فما الذي حلّ بها وجعلها أكثر تزمتاً وتشدداً وكراهية؟!كان هذا مقدمة لورقتي "مستقبل التسامح في ظل ثقافة الكراهية" إلى ملتقى مجلة "العربي" الرابع عشر- ثقافة التسامح والسلام- في سياق تكريم "منظمة الأمم المتحدة" لسمو أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، بمنحه لقب "قائد العمل الإنساني" وتسمية دولة الكويت "مركزاً إنسانياً عالمياً".وإذ ينبغي الإشادة بالدور الريادي لمجلة العربي سواء في "التكوين المعرفي" للنخب العربية والإسلامية، أو في نشر "ثقافة التسامح" في ذلك الزمن الجميل، فإننا اليوم في هذا الزمن- زمن كراهية البشر والحجر- ما أحوجنا إلى استعادة هذه الثقافة الإنسانية ونشرها وترسيخها، من أجل كسب معركة المستقبل، مستقبل شبابنا، المستهدف من "دعاة الكراهية" عبر فتاوى وخطب تحريضية على الآخر، تفيض من مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بيئة خصبة للكراهية."الكراهية" فكر عدواني ينشأ في العقول أولاً، ثم يستقر في النفوس ثانياً؛ ليتحول إلى سلوكيات عنيفة ضد الآخر، ومن هنا، ومن أجل كسب المستقبل، علينا تفكيك خطاب الكراهية بزرع ثقافة التسامح في البنية المجتمعية، عبر تكامل أدوار البيت والمدرسة والجامع والإعلام والخطاب السياسي والخطاب التشريعي، بتبني "استراتيجية وطنية شاملة" تتعاون فيها كل مؤسسات المجتمع والدولة، لنشر قيم التسامح وقبول الآخر والمحبة والسلام والتي جميعها، جوهر ديننا وأساس كل الأديان والمذاهب الإنسانية ومواثيق حقوق الإنسان، ويكون من مرتكزاتها:١- الإيمان بأنه لا أحد يمتلك الحقيقة الكاملة؛ لأن الحقيقة الكاملة عند الله تعالى وحده، ولا سبيل للبشر إليها، "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً"، ومعارف البشر- مهما تقدمت وتعمقت- لن تخترق قيود النسبية سواء في المعارف أو العلوم.٢- الإيمان بأن اختلاف البشر أدياناً، ولغاتٍ، وأجناساً، وألواناً... إلخ، حقيقة إلهية ثابتة؛ لأن الكون خلق على قانون الاختلاف، ولأن البشر خلقهم المولى تعالى من أجل الاختلاف، ولذلك خلقهم، وأن الحياة نفسها لا تقوم ولا تستمر إلا بـ"التعددية"؛ ولذلك علينا أن نتقبل الآخر بما هو عليه، لا بما نريده، فلا يضرني كمسلم كون اليهودي على يهوديته، والمسيحي على مسيحيته، والبوذي على بوذيته، والبهائي على بهائيته، لكن المطلوب مني أن أتسامح وأتعايش في هذه الحياة، وأتعاون معه لتحقيق المنافع المشتركة، والله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يحاسب البشر، يوم القيامة "إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ".٣- ترسيخ البعد الإنساني في الخطاب التعليمي، والديني والإعلامي، والتشريعي، والثقافي.٤- تنقية المناهج من الإرث التعصبي والتمييزي تجاه الآخر الديني والمذهبي وتجاه المرأة. ٥- تثقيف الأئمة والخطباء بمناهج الحوار وقبول الآخر وثقافة التسامح والتعددية.٦- تدريس المفاهيم الدينية: الجهاد، والولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من منطلق حضاري، يصحح التشويه الذي لحق بها من دعاة الكراهية.٧- تخليص التشريعات الوطنية من شوائب التمييز ضد الأقليات والمرأة.٨- التركيز على القواسم الدينية والمذهبية المشتركة، طبقاً لـ"نتعاون فيما اتفقنا ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا".٩- تبني منهج النقد الذاتي في خطابنا التعليمي والديني والإعلامي.١٠- تعزيز قيم المواطنة كرابط جامع لأبناء المجتمع الواحد، يعلو فوق الروابط الأخرى مثل القبلية والطائفية والأيديولوجية.١١- الرقابة على منابر المساجد- بيوت الله تعالى- بما يجنبها الانزلاق إلى ساحة الخلافات السياسية والمذهبية والأيديولوجية "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً".١٢- مراقبة المواقع الإلكترونية التي تنشر خطاب الكراهية وتحرض على الآخر.١٣- التوسع في إنشاء مراكز بحثية تعنى بالحوار الحضاري والثقافي والديني والمذهبي، جسراً للتواصل بين الناس ودعماً لثقافة التسامح والمحبة والسلام.ختاماً: قبل ٢٠ عاماً تساءل المفكر البحريني الكبير محمد جابر الأنصاري في مقالة رائعة "أفضل المبادئ وأسوأ الأوضاع": لماذا تعيش مجتمعاتنا أسوأ الأوضاع والممارسات، مع أنها تمتلك أفضل العقائد والمبادئ والتعاليم الدينية؟! وأجاب بأننا عجزنا عن ترجمة هذه المبادئ على أرض الواقع، فبقيت معلقة في الفضاء المجتمعي، يحث عليها المفكرون، ولكن دون جدوى، وهذا يعني أن التسامح ليس فطرة يولد بها الإنسان، بل ممارسة عملية يتربى عليها الطفل في البيت والمدرسة والجامع والمجتمع، ولو تمكن "دعاة الكراهية" من مقاليد الأمور، فإن مستقبل التسامح سيكون مهدداً، وسيسعون إلى تفريغ المنطقة من كل الديانات والأقليات التاريخية، وسيلاحقون آخر مسيحي في المنطقة.إن هذا المستقبل، مرهون بمدى استعداد مجتمعاتنا لتفكيك "ثقافة الكراهية".* كاتب وباحث قطري