يستخدم بعض علماء النفس في الجامعات الغربية عرضا لطيفا لكشف التباين في الإحساس بالمؤثرات الخارجية، ويقوم هؤلاء العلماء بتقسيم طلابهم إلى مجموعتين، ثم يأمرون أفراد المجموعة الأولى بوضع أيديهم في ماء ساخن، على عكس أفراد المجموعة الثانية الذين يطلبون منهم وضع أيديهم في ماء بارد.

Ad

بعد وقت قصير، يطلب هؤلاء العلماء من طلابهم جميعا وضع أيديهم في ماء بدرجة حرارة الغرفة، لكن المفارقة تكمن في أن الطلاب الذين رفعوا أيديهم للتو من الماء الساخن يعبرون عن اعتقادهم بأن أيديهم أصبحت في ماء بارد، أما هؤلاء الذين كانت أيديهم في الماء البارد، فيعبرون عن اعتقادهم بأن أيديهم باتت في ماء ساخن.

توضح تلك التجربة ما بات معروفا في مجال علم النفس الفيزيائي بمبدأ "التباين"، وفق ما يقول الدكتور سيالديني من جامعة أريزونا، فأيدي الطلاب جميعا موضوعة في ماء بدرجة حرارة الغرفة، لكن بعضهم يعتبره ساخنا لأنه رفع يده للتو من ماء بارد، والبعض الآخر يعتبره باردا لأنه رفع يده للتو من ماء ساخن.

إن البعض يفهم مبدأ التباين جيداً ويطبقه ببراعة في الحياة الاجتماعية، والمثل التالي خير دليل على هذا:

بعثت طالبة بإحدى الجامعات الأميركية برسالة إلى والديها اللذين يعيشان في مدينة أخرى بعيدة مفادها: "أنا آسفة جداً لأني توقفت عن الكتابة لكما منذ أسابيع، فقد تعافيت للتو من مرض فقدان البصر المؤقت الذي أصابني، بعدما تم علاجي من آثار كسر الجمجمة.

سيمكنني الآن العودة إلى متابعة دروسي، بعد أن استعدت جزءاً من صحتي ونشاطي. لقد أصبت بكسر في الدماغ بسبب قفزي من نافذة غرفتي، بعدما شب فيها حريق.

لحسن الحظ، فقد كان هناك عامل في محطة وقود قريبة من المنزل منتبهاً عندما سقطت وارتطمت بالأرض، وقد استطاع أن يستدعي الإسعاف والإطفائيين.

إنه شاب لطيف، وإن كان لم يكمل تعليمه، ومع ذلك فقد أظهر عطفاً كبيراً، وكان ودوداً للغاية، حتى إنه استضافني في غرفته لمدة تزيد على الشهر... أنا الآن حامل منه، وقد أبدى استعداده لبحث موضوع زواجنا، بمجرد تحسن حالته المادية.

أنا أعرف أنكما أردتما دوماً أن تقيما حفلاً كبيراً لزفافي، وأن تكونا بجانبي حينما أحمل في حفيدكما، لكن تلك هي نتيجة الظروف الصعبة التي تعرضت لها خلال الفترة الماضية".

عند هذه الجملة في الخطاب الذي أرسلته الطالبة "شارون" إلى والديها في سبعينيات القرن الماضي، وفق ما يقول العالمان المختصان في حقل "الفيزياء النفسية"، "جيترس" Gutierres، و"كينريك" Kenrick، في بحثهما عن "مبدأ التباين"، بات الوالدان محطمين تقريباً، بعدما شعرا بأنهما فقدا كل الأماني التي كانا يخططان لها بخصوص ابنتهما الوحيدة.

لكن "شارون"، التي كانت تدرك الحالة النفسية لوالديها عند تلك النقطة، بادرت باستكمال الخطاب على النحو التالي: "أعرف أنكما مصدومان الآن؛ ولذلك، فلن أكمل معكما تلك اللعبة السخيفة، الحقيقة أنني لم أقل أي شيء حقيقي في هذ الخطاب حتى تلك اللحظة، أنا بخير، ولم أفقد البصر، ولم أصب بارتجاج في الدماغ، كما أن غرفتي لم تحترق، ولم أتعرف على أي عامل في محطة وقود، أو أي شخص آخر. أنا فقط رسبت في امتحان هذا العام، وأرجو أن تسامحاني".

تقول مجلة "نيويوركر"، التي نشرت هذا النص في أحد أعدادها القديمة، تحت عنوان "تطبيقات مبدأ التباين"، إن "شارون" رسبت في امتحان نهاية العام، لكنها كانت بارعة جداً في استغلال علم النفس الفيزيائي، خصوصاً الجزء الخاص بـ "مبدأ التباين"، إلى حد أن والديها سامحاها فوراً، بل حمدا الله كثيراً على سلامتها من الإصابة الخطيرة والحمل خارج إطار الزواج، واعتبرا أن رسوبها أمر بسيط يمكن تعويضه واحتماله.

يقوم "مبدأ التباين"، وفق "جيترس" و"كينريك"، على قاعدة تقول إننا "نقبل الأشياء السلبية والضارة بسهولة حينما نقوم بمقارنتها بأشياء أخرى أسوأ وأكثر ضرراً، إلى حد أننا أحياناً نحسد أنفسنا عليها".

يعرف رجال الأعمال أن إعلان إفلاس أحدهم بشكل يعطي انطباعا لدائنيه باستحالة تحصيل أي أموال منه، يخلق مطاوعة كبيرة لدى هؤلاء الدائنين ويجعلهم أكثر قبولا للحصول على أي جزء من أموالهم مقابل إسقاط الدين بأكمله.

تتلخص الفكرة هنا في أن الحصول على جزء يسير من حقك والتخلي عن الجزء الأكبر قد يكون في تقديرك مكسبا وإنجازا لمجرد أن دائنين آخرين قد لا يستردوا فلسا واحدا من أموالهم. إن ذلك أحد أهم تطبيقات مبدأ التباين في مجتمع الأعمال.

لكن لماذا نستدعي القصص عن تطبيقات "مبدأ التباين" الآن؟

يبدو أننا أصبحنا جميعاً أسرى لهذا المبدأ في تلك الأوقات بالذات.

لقد وقعت التغييرات السياسية الحادة في أكثر من بلد عربي، خصوصا مع اندلاع ما عرف سابقا بـ"ثورات الربيع العربي"، وما تلا ذلك من انهيار عدد من الأنظمة السياسية، أو وقوع حالات فوضى، أو اندلاع حروب أهلية.

كانت تلك "الثورات" في جانب منها تعبيراً عن أزمة تلك الأنظمة وعدم قدرتها على الحفاظ على السلطة، في ظل تردي قدرتها على الإنجاز من جهة، وتفاقم الفساد في أدائها من جهة أخرى.

سيظهر اتجاه قوي لاحقا يعتبر تلك الانتفاضات الجماهيرية "مؤامرة خارجية" أو "خيانة" أو "عمالة"، وستتم ملاحقة "ثوار الأمس" أو تلطيخ سمعتهم.

وستقوم السلطات في أكثر من بلد عربي باستخدام مبدأ التباين في محاولة لإقناع الجمهور بأن يده في الماء البارد، حينما سيقارن أوضاعه بإخوته الذين يضعون أيديهم في الماء الملتهب سواء في سورية أو اليمن أو ليبيا أو العراق.

كثيراً ما يفلح مبدأ التباين للأسف في إقناع الجمهور بقبول أوضاع خطأ أو عاجزة عن تلبية طموحاته، لمجرد أن هذا سيكون أفضل من الفوضى والتحلل.

الشعوب العربية جديرة بتحقيق أهدافها وتنفيذ مطالبها المتعلقة بالعدالة والحرية والديمقراطية وجديرة أيضاً بتفادي الانهيار والفوضى، وبالتالي لا يصح لها أن تقبل بأوضاع رديئة وظالمة لمجرد أن دولا أخرى انزلقت إلى الفوضى.

* كاتب مصري