إيران تتأقلم مع العقوبات
لدى القادة الإيرانيين قناعة بأنّ انخفاض أسعار النفط مؤخراً مؤامرة سعودية- أميركية متعمدة للإضرار بالجمهورية الإسلامية، لذا نظروا إلى تصريحات وزير البترول السعودي علي النعيمي، التي أعلن فيها أنّ أسعار النفط قد تنخفض أكثر بكثير، وتبقى منخفضة فترة طويلة، بغض النظر عن أثر ذلك على إيران، على أنّها دليل على الدوافع السياسية وراء هبوط الأسعار.
من المرجح أن تُحدث العقوبات أثراً على الاقتصاد الإيراني، والأهم من ذلك على قيادتها السياسية، إذا ما تم باستمرار تطبيق إجراءات أكثر صرامةً، لذلك يتعيّن على الولايات المتحدة أن تقنع قادة إيران أنّه كلما استمر الجمود في الملف النووي فترة أطول ازدادت معاناتهم.قادة إيران متفائلون بطبيعتهم، شأنهم شأن كثيرين منّا، كانوا يعتقدون في كثير من الأحيان أنّ الولايات المتحدة "نفدت منها العقوبات" وأنّه لم تعد هناك إجراءات جديدة يمكن لواشنطن أن تطبقها على طهران. فهمت إدارة الرئيس أوباما، في مراحلها الأولى وبصورة جيدة، كيف أن التشديد المستمر للعقوبات بعث برسالة واضحة مفادها أنّ الجمود في الملف النووي لن ينفك يزداد كلفةً يوماً بعد آخر، وتمثّل نهج الإدارة في اتباع ثلاثة مسارات في آن واحد من أجل تشديد العقوبات.كان المسار الأول والأهم هو تطبيق الإجراءات، التي كانت موضوعةً شكلياً، بشكل أكثر صرامة، وقد واصلت حكومة أوباما وكثّفت المبادرات التي كانت اتُّخذت في عهد الرئيس جورج بوش الابن بشأن الملاحقة النشيطة للمؤسسات المالية التي كانت تتجاهل لوائح العقوبات الأميركية، وقد أحدثت مليارات الدولارات التي تم جمعها على شكل غرامات من المصارف أثراً بالغاً على مواقف المجتمع المالي، الذي اعتبر أنّ المعاملات مع إيران لا تستحق المجازفة.وبالإضافة إلى ذلك، سعت إدارة أوباما جاهدةً إلى دفع حلفائها إلى زيادة عقوباتهم على إيران، وساعد على تحقيق ذلك الخطاب الشائن لإدارة الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد، إنّ الدمج الحذر للنصٍ المتعلق بـ"ممارسة التيقظ" حول مجموعة من النشاطات الإيرانية في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1929 الصادر عام 2010، بناءً على القرار 1803 الصادر عام 2008، وفّر طريقةً لعرض الإجراءات المكمِّلة من الحلفاء، وخاصة الاتحاد الأوروبي، على أنّها تندرج في إطار إجراءات مجلس الأمن، وهو أمرٌ يهمّ كثيرين من هؤلاء الحلفاء.وقد أثّر الدعم الهادئ من كثير من الحكومات الأخرى للقيود الأميركية على المعاملات المالية بشدة على المؤسسات المالية ودفعها إلى التوافق مع تلك القيود، بدلاً من الشكوى بشأن الإجراءات التي تعتبر أنّها تتجاوز حدود الولايات المتحدة.وكذلك، تم اعتماد وتوسيع عقوبات جديدة بناءً على عقوبات قائمة، وشكت الإدارة الأميركية بشكل متكرر من إجراءات تتعلق بعقوبات جديدة كان الكونغرس الأميركي ينظر فيها، لتعود وتعلن بعد أشهر من سنّ تدابير مشابهة لها، أنّ مثل هذه الخطوات سبق أن ساهمت إلى حد كبير في إعادة نظر القادة الإيرانيين في مواقفهم السابقة. بإمكاننا مناقشة المساهمة النسبية لكل نهج من هذه المقاربات، وعلى أي حال، كانت النتيجة النهائية إحداث صدمة للقادة الإيرانيين حول قدرة الولايات المتحدة على زيادة حدة العقوبات، فضلاً عن تغذية الاستياء الشعبي من خلال اتباع موقف متشدد إزاء الملف النووي، الذي تم تصوّره على نحو محقّ بأنّه وقوف في وجه تمكّن إيران من الاستفادة من الفرص الكثيرة التي يمكن أن يوفر لها الاندماج الأكبر في الاقتصاد العالمي.ويكمن التحدي القائم حالياً أمام الولايات المتحدة في إيجاد مزيج جديد من السياسات التي من شأنها أن تحدث ثانية صدمة للقادة الإيرانيين. وقد جاءت مساعدةٌ كبيرة لتحقيق هذه الغاية من وجهة غير متوقعة، ألا وهي العرض الوافر في أسواق النفط العالمية، فبإمكان أي شخص أن يرى أنّ القادة الإيرانيين مقتنعون بأنّ انخفاض أسعار النفط مؤخراً مؤامرة سعودية- أميركية متعمدة للإضرار بالجمهورية الإسلامية. وقد تم النظر إلى المقابلات الكثيرة التي أجريت مع وزير البترول والثروة المعدنية السعودي علي النعيمي والتي أعلن فيها أنّ أسعار النفط قد تضطر إلى الانخفاض أكثر بكثير وتبقى منخفضة لفترة طويلة بغض النظر عن أثر ذلك على إيران وغيرها، على أنّه دليل على الدوافع السياسية التي تكمن وراء هبوط الأسعار.إنّ التصريحات المطوّلة للمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي في 24 يناير، والتي قال فيها إنّ تراجع أسعار النفط كان مؤامرةً مدعومة من قبل الولايات المتحدة ضد الجمهورية الإسلامية، جعله يتوصل إلى توصيته السياسية المعتادة: "سنواجه الضربات بالضربات".الحدث التاريخي الشبيه الذي يتردد صداه في أوساط الجيل الحالي من القادة الإيرانيين هو انهيار الأسعار عام 1986 (عندما انخفض السعر الآني للنفط الخام في دبي من 27.53 دولاراً للبرميل الواحد عام 1985 إلى 13.10 دولاراً عام 1986، وبقي على حوالي هذا المستوى لسنوات).وشكلت الخسارة الناتجة في الإيرادات عنصراً محورياً في قرار إيران في ذلك الحين بأنه لا يمكنها تحمل تكاليف مواصلة الحرب مع العراق، والتي كان لا بد لها التخلي عنها دون تحقيق إنجازات تُذكر بسبب عدد القتلى الإيرانيين الذي بلغ 150 ألف شخص. ولطالما اعتقد القادة الإيرانيون أنّ القرار السعودي بزيادة إنتاج بلادهم من النفط من 3.6 ملايين برميل في اليوم عام 1985 إلى 5.2 ملايين عام 1986، والذي كان السبب الرئيسي وراء انهيار الأسعار، كان موجهاً ضدّ الجمهورية الإسلامية في إطار الجهود السعودية المتعددة الأوجه لدرء النجاحات الميدانية لإيران ضد العراق.وليس سراً أنّ القيادة السعودية تريد أن ترى إيران تتعرض لضغوط أكبر، من أجل حل الجمود في الملف النووي والتقليص من الدور النشط الذي تقوم به إيران بدعمها للمقاتلين الشيعة في سورية والعراق واليمن (والبحرين أيضاً وفقاً للسعوديين). إن هذا الواقع بالإضافة إلى قراءة القيادة الإيرانية لأحداث ثمانينيات القرن العشرين لا يساهمان إلا في ترسيخ اقتناعهم بأن السعوديين يتخذون خطوات كان الإيرانيون أنفسهم سيتخذونها لو كانوا محلهم، أي يعملون على خفض أسعار النفط للضغط على إيران.وقد يراود الولايات المتحدة الشك في ما إذا كانت هذه قراءةً دقيقةً للوقائع؛ بيد أن على الحكومة الأميركية أن تلمّح سواء علناً أو في حوارها مع طهران، بأنّ أسعار النفط المنخفضة تشكل جزءاً من خطة واشنطن، وبما أنّ الناس في الشرق الأوسط غالباً ما يكونون مستعدين للنظر إلى الولايات المتحدة على أنّها دولة قوية جداً، على واشنطن أن تجد الوسائل لتستغل ذلك لصالحها، فإذا كان بإمكان الولايات المتحدة أن تحظى بالتقدير لشروق الشمس في الشرق، عليها أن تفعل ذلك.وعلى غرار السنوات التي كانت فيها إيرادات النفط المرتفعة وقتاً جيداً لإحداث صدمة لإيران بإظهار الثمن الباهظ الذي كانت تدفعه لعدم تمكنها من تصدير معظم إنتاجها النفطي، فإن الآن هو الوقت المناسب لإحداث صدمة [أخرى] لإيران من خلال الإظهار أنّه بما أنّ الاقتصاد العالمي لا يحتاج إلى نفطها، فإن الولايات المتحدة على استعداد لاتخاذ إجراءات أشد صرامة ضدها ما لم يتم حل الجمود في الملف النووي. لقد تلاشى تأثير الجولات الأخيرة من العقوبات؛ لذلك تحتاج الولايات المتحدة إلى تطبيق جولة جديدة من العقوبات لتظهر أنّها لم "تنفد منها".Patrick Clawson باتريك كلاوسون* مدير الأبحاث في معهد واشنطن وخبير اقتصادي رفيع المستوى سابقاً في «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي».