الفنان... موظف فاشل
أين موقع الفنان وسط معادلة البيروقراطية والإبداع؟ إلى أي حد ينجح الفنان الموظف في تولي الإدارة؟ هل فعلا تؤثر على خطواته الفنية؟ لماذا يصر البعض على الاحتفاظ بوظيفته وهل هي ضمان من غدر الزمان؟ هذه الأسئلة وغيرها فرضت نفسها في ظل تجارب فنانين بدأوا مشوارهم بالعمل في وزارة الثقافة وجهات حكومية، ويحتفظون بوظائفهم رغم نجاحهم وتحقيقهم نجومية، بينما اختار البعض الانسحاب والتفرغ للفن.
أخرج صبري فواز مسرحية «اللي خايف يروح» على المسرح العائم أخيراً، في حين قدم نقيب الممثلين أشرف عبدالغفور عشرات المسرحيات والأعمال التابعة لوزارة الثقافة التي يعمل فيها، وثمة فنانون كثر يحتفظون بوظائفهم الحكومية من بينهم: هاني كمال الذي يعمل كمتحدث رسمي لوزارة التربية والتعليم، ماجدة زكي، أحمد عبدالعزيز، رياض الخولي، سامح الصريطي، ماهر سليم، فتوح أحمد الذي يتولى رئاسة «البيت الفني للمسرح» بينما استقال أحمد السقا منه.تأتي خطوة السقا هذه لعدم قدرته على تحمل مشقة العمل الوظيفي ومواجهة الروتين وأعباء الوظيفة الشاقة التي مارسها نحو 15 سنة في فرقة «مسرح القاهرة للعرائس»، وقدم خلالها عرضاً واحداً من إنتاج الفرقة، واقتصرت مشاركته على الأداء الصوتي لأحد أبطال عرض «عروستي»، ما جعله يشعر بعجزه عن استكمال مشواره الوظيفي.
مصلحة الفن المصريماجد الكدواني أحد أبرز النجوم الذين يحتفظون بوظائفهم الحكومية، فهو يعمل في وزارة الثقافة وقدم مسرحيات من بينها: «الإسكافي ملكاً» و{في بيتنا شبح»، فإنه أعلن تذمره من البيروقراطية التي يعانيها في الدواوين الحكومية وتسببت، في إحدى المرات، بوقف عرض إحدى مسرحياته، ويقول: «لا تصلح بيروقراطية الموظفين مع الفن، لأنها لا تفرق بين العمل الجيد والرديء أو الموهوب ومن هو دون ذلك»، مشيراً إلى أن الروتين يملأ المصالح الحكومية.يضيف: «لا أتقاضى أجراً عن أداء أي أدوار مسرحية، وأحصل على راتبي كموظف فحسب، فأنا لا أمثل بعقد خارجي كي لا أحمّل إدارة المسرح أعباء مادية أخرى»، مبدياً سعادته بإعادة افتتاح المسرح القومي ومتمنياً رجوعه إلى سابق عهده، بعيداً عن الروتين الذي ضيع منه سنة كاملة من البروفات، قبل إيقاف عرض إحدى مسرحياته.المطرب أحمد إبراهيم، رئيس هيئة قصور الثقافة بإقليم القاهرة الكبرى، الذي قدم تترات أعمال كثيرة من بينها: فيلم «النمر الأسود»، مسلسل «أماكن في القلب» و{الهاربتان»، وأدى أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب بدار الأوبرا المصرية يوضح: «أنا في الأصل مطرب وفنان وهذا الأهم عندي، وليس لدي استعداد للتنازل عن لقب فنان»، مشيراً إلى أنه قبل المنصب الذي تولاه، منذ فترة قصيرة، لحبه للفن وخدمة هوايته.يضيف: «كوني فناناً وليس مجرد موظف، أحاول تقديم عملي كفنان ولا أرى صعوبة في ذلك واجتهد للحفاظ على الهوية الثقافية ومتابعتها بدقة وبشكل شبه دوري، والذهاب إلى أبعد المواقع والأماكن التي لا تخطر ببال المسؤولين». حلمي فودة، بطل مسلسل «نسر الشرق صلاح الدين» الذي قدم أعمالا ناجحة على غرار مسلسلات: «العندليب» و{القضاء في الإسلام» و{نابليون والمحروسة» و{مملكة الجبل»... وعمل كمدير لـ «فرقة مسرح الشباب»، يوضح: «حاولت، أثناء رئاستي لمسرح الشباب، أن أمنح فرصة للمخرجين لتقديم أعمالهم الأولى في مسرح الدولة بهدف إثراء المشهد المسرحي المصري بطاقات جديدة»، مشيراً إلى أنه ترك العمل في هذا المنصب رغبة منه في إحداث تغيير في المواقع الفنية «حتى لا تيبس الأفكار».يضيف: «إذا لم يحدث تغيير في القيادات كل فترة فلن نصل إلى شيء، خصوصاً أن عملنا إبداعي، ومن هذا المنطلق تركت المنصب بمحض إرادتي لأتفرغ للفن الذي أعشقه»، متمنياً التوفيق للفنانين الذين يشغلون منصباً حكومياً، ومطالباً إياهم بمراعاة مصلحة الفن المصري».أزمة التعايشيرى الطبيب النفسي الدكتور يحيى الرخاوي أن الموهوب والمبدع شخص حساس يتميز برقة المشاعر والخيال، ولا يستطيع التعايش مع الروتين والبيروقراطية، من هنا تأتي الأزمات، فالأشخاص الموهوبون يهربون من قيد الوظيفة الحكومية ودفاتر الحضور والانصراف، موضحاً أن التعامل الجاف مع أصحاب المواهب يصيبهم بإحباط واكتئاب، فهم يرفضون تنفيذ الأوامر من دون تفكير.يضيف: «لا نجد الأزمات الوظيفية إلا في العالم الثالث، ففي الدول الأجنبية لا يقل الموظف إبداعاً أو موهبة عن الفنانين، لأن التعامل معه يكون بشكل مختلف بعيداً عن البيروقراطية التي قتلت مواهب كثيرة لدينا، لرغبة المسؤولين في عدم التطوير أو التقدم خطوة إلى الأمام»، مشدداً على أن مصر تحتاج ثورة إدارية كبرى.من جهتها توضح الناقدة خيرية البشلاوي أن الوظيفة الحكومية لا تجتمع مع العمل الإبداعي، وترجح أن تكون سبباً في توقف نجومية فنانين أهملوا الفن واهتموا بالجانب الوظيفي فحسب، مشيرة إلى أنه لا يمكن لشخص واحد أن يكون ناجحاً في الاتجاهين المعاكسين إلا نادراً.تضيف: «بغض النظر عن أي شيء، فالروتين الحكومي طارد للمواهب والإبداع، ومن يتفوق فيه تكون لديه استعدادات خاصة تتنافى مع الإبداع، بدليل أن ثمة فنانين يعملون في وظائف حكومية، لكنهم لا يذهبون إلى أماكن عملهم ويحصلون على إجازات مستمرة، سواء كانوا قيادات أو مجرد موظفين، لذلك تفوّق هؤلاء كنجوم».