احتفل العالم العربي خلال الأسبوع الماضي بيوم اللغة العربية، الذي يصادف 18 ديسمبر من كل عام، وجرت بعض الاحتفالات الشكلية هنا وهناك، لكن السؤال المهم ظل قائماً: لماذا لا يتكلم العرب اللغة العربية؟

Ad

الجواب، أن العرب يتكلمون العربية، لكنهم يتكلمون عربية اليوم وليست عربية الأمس، وهم في ذلك منسجمون مع وعيهم من جهة، ومع طبيعة اللحظة الإنسانية العابرة من جهة ثانية. فليس من المعقول أن يتكلم شخص يعيش في القرن الواحد والعشرين لغة تنتمي للقرن العاشر أو الحادي عشر، ولا حتى القرن الثامن عشر. فاللغة كائن حي، يعيش نبض المجتمع ويعبر عنه بألسنة أهله.

 وحين توقفت "العربية" عبر قواميسها و"مجمعاتها" في مكان جامد، وربطت نفسها إلى لحظة زمنية لا تريد التزحزح عنها، ما كان طبيعيا أن يبقى أبناء الوطن العربي مربوطين إلى جانبها، ولا جامدين كحال جمودها. فالوضع الطبيعي دوران المجتمعات العربية في دولاب الزمن الدائر، ويوم بعد يوم تكبر المسافة وتبعد بينها وبين لسان الإنسان العربي من جهة، وبينها وبين تغيّر وتبدل اللحظة الإنسانية العابرة من جهة أخرى.

اللغة وصل متطور بين البشر، وفي زمن الطائرات العابرة للقارات، لا يبدو مبرراً السفر على حمار، وإذا ما استخدم مزارع عربة يجرها حمار فهو يقوم بذلك في أمور حقله، لكنه سرعان ما يترك العربة في جانب من الحقل، ويغادر راكباً السيارة عائداً إلى بيته. وهذا ما آلت إليه اللغة العربية، فأبناء لغة الضاد يرجعون إلى كتب التراث لقراءة أحداثها، فيتصلون بلغة ذاك الزمان، لكنهم ما أن ينتهوا من تلك القراءة حتى يتركوا تلك اللغة نائمة بين دفتي الكتاب، ويعودون إلى لحظة زمانهم وإلى لغة واقعهم. وكأن الوصل هو وصل لحظة وليس وصل حياة.

الأمم المتحضرة تقدم سنوياً أو على أبعد حد كل سنتين أو ثلاث، قاموساً جديداً يحوي كل ما دخل على اللغة من جديد، وما غادرها من قديم متهالك. وبهذا تكون اللغة جسرا دائما بين الناطقين بها، وتكون لسان حالهم، ويكون وصلهم واتصالهم بها، هو حبل جديد للحظة الإنسانية المتغيرة بكل ما يحمل هذا التغيير من جديد، وما ينبذ من قديم متحجر.

مشكلة اللغة العربية تكمن في جمودها، وفي عدم قدرتها على مسايرة الجديد، وبالتالي غربتها عن الزمن الذي نحيا. وليس أدل على ذلك من قراءة الناس للجريدة في كل الأقطار العربية، بسهولة ويسر، وابتعادهم عن كتب اللغة المقعرة التي يصعب فهمها. فالكتابة الصحافية في معظمها عربية بصيغة عصرية، كتابة تراعي القواعد الأساسية للغة، ولا تتجاوزها، لكنها تبتعد عن المبالغة في استخدام كلمات ما عاد لرنينها من صدى في اللحظة الحاضرة.

هو قانون الحياة، الصباح يطرد ظلمة المساء، ولا تنتظر لحظةٌ منْ يتأخر عن سيرها، ولأن اللغة حياة فإن الناطقين بها يسيرون في دروب حياتهم وينطقون بكلمات لحظاتها، وإذا كانت لغتهم الأم عاجزة عن تجديد نفسها، واستحداث مفردات تستوعب طبيعة اللحظة وتنطق بنبضها، فهم أقدر على ذلك. ولذا فإن اللسان العربي الحالي هو لسان لغة حاضرة، لغة حية، لغة تنتمي للجذر اللغوي وتبتعد عن تربته اليابسة.

ضمن انكسارات اللحظة العربية الحاضرة، لم يبق شيء يربط العربي بالعربي سوى اللغة، وبالتالي فإن الجميع يعترف بحضور اللغة العربية رابطاً وحيداً وقوياً بين أبنائها، لكن هذه اللغة تستصرخ ليل نهار من يلتفت إليها ويخلصها من ثوبها البالي القديم، ويقدمها برونقها الأصيل، وبحلة عصرية تلفت الأنظار، فهل من مجيب؟