ما عاد للجيش العراقي وجود
لعل الواقع الأكثر أهمية الذي يكشفه انتصار "داعش" أن الجيش العراقي ما عاد له وجود، ولا شك أن هذه ملاحظة مختلفة عما أعلنه وزير الدفاع كارتر، الذي يدعي أنهم فقدوا الرغبة في القتال. صحيح أن البعض فقد الرغبة في القتال في الرمادي لكن علينا أن نطرح سؤالاً أكثر أهمية: كانت الرمادي محاصرة منذ أشهر فلمَ لم تُرسل سوى تعزيزات محدودة للدفاع عن مدينة تُعتبر بالغة الأهمية للدفاع عن بغداد بحد ذاتها؟ تتحدث المصادر العامة عن نحو 14 فرقة في الجيش العراقي عام 2014، لكن ثلاثاً إلى أربعاً منها دُمرت في الموصل، فتبقّى في الجيش تسع، إلا أن واحدة منها، على أفضل تقدير، كانت تدافع عن الرمادي، فأين الباقي؟ نعم، أين هي اليوم؟ ولمَ يجب دعوة الميليشيات الشيعية لتحرير الرمادي؟ فإذا تبخر الجيش العراقي، أو ربما انهار وتحول، بعبارة أدق، إلى مجموعة من الميليشيات المحلية وحرس القصر، تكون إذاً مهمة إعادة التدريب الأميركية في العراق أكثر صعوبة بكثير مما نعتقد، فبعد ادعاء الولايات المتحدة أنها بنت جيشاً عراقياً ما عادة موجوداً، ونشك أنه موجود أساساً، يكون على الجيش الأميركي اليوم بناء جيش جديد من الصفر، فهل تأتي النتائج أفضل هذه المرة؟يكشف انتصار "داعش" في الرمادي أيضاً أن هذا التنظيم يتمتع بقدرة كبيرة، ليس من الناحية التكتيكية فحسب، بل "على صعيد العمليات أيضاً"، بكلمات أخرى يبرع هذا التنظيم في القتال، الذي يتطلب مشاركة أصوليين يجيدون استخدام البنادق وشن الحملات أيضاً، الذي يحتاج إلى قادة ماكرين، ودعم لوجستي، ودعم متبادل منسق في المعارك، والتنقلات، والاستخبارات. في الرمادي مثلاً، رغم سيطرة الولايات المتحدة الجوية، تمكن "داعش" من الحفاظ على قواه طوال أشهر، كذلك نجح في تفخيخ شاحنات بعبوات كبيرة تتطلب أطناناً من المتفجرات بغية دعم هجومه الأخير، كذلك هاجم تحت غطاء عاصفة رملية، ما ساهم في الحد من فاعلية القوة الجوية الأميركية.
أخيراً، على ضوء نجاح "داعش" في الرمادي، من الضروري أن نعيد النظر في انتصارات مثل القتال في البلدة الحدودية السورية كوباني أو "الانتصار" في تكريت، فما زلنا نجهل لمَ قاتل محاربو "داعش" بكل ما أوتوا من قوة من أجل بلدة حدودية لا أهمية لها، مواجهين موجات من الغارات الجوية الأميركية، وبالنظر إلى تلك المعركة اليوم، قد نميل إلى الاعتقاد أن "داعش" كان يحاول "تعلم" كيفية التعاطي معنا: ضحى بالأرواح والمعدات لمعرفة السبيل الأفضل إلى مواجهة الغارات الجوية الأميركية المتواصلة، ويبدو أنه نجح في ذلك، إذ تدعي القيادة المركزية أن الغارات الجوية قتلت منذ بداية الحملة 8500 مقاتل من "داعش"، وقد تكون هذه الادعاءات صحيحة، لكن بالنظر إلى انتصار الرمادي، تبدو معركة تكريت أشبه برداء مصارع الثيران: مجرد عملية تمويه لتحويل انتباه قوات الحكومة العراقية، والميليشيات، والإيرانيين، والأميركيين بعيداً عن محافظة الأنبار وتحضيرات "داعش" للهجوم على الرمادي. كذلك تشير التقارير الإعلامية إلى أن خسائر "داعش" في تكريت لم تكن كبيرة، صحيح أن تكريت حظيت بدفاعات جيدة، إلا أنها لم تكن محصنة (عملية توفير للقوى اعتمدت إلى حد كبير على العبوات المتفجرة المبتكرة)، وإذا صح ذلك، يكون الوقت والطاقة اللذان استلزمتهما إعادة احتلال تلك المنطقة والأضرار الجانبية الناجمة مؤشراً سيئاً بالنسبة إلى الهجمات المستقبلية، وخصوصاً في مواقع قد يدافع عنها "داعش" بشراسة، مثل الموصل. صحيح أن ضباب الحرب قد انقشع بعض الشيء، إلا أننا ما زلنا عاجزين عن رؤية الصورة كاملة، مع أنها قد تكون أسوأ أو ربما أفضل، لكن مفهوم أن الجيش العراقي والائتلاف الداعم له، والذي تقوده الولايات المتحدة، قد يتمكنان قريباً من شن الهجمات ضد "داعش" ما هو إلا وهم، وإذا شُن الهجوم، بدلاً من ذلك، بالتعاون مع الميليشيات الشيعية التي تشكل اليوم نواة قوة الحكومة العراقية العسكرية، وترافق مع ضربات جوية أميركية مكثفة، فكونوا على ثقة بأن أي انتصارات سيحققونها ستقوض إلى حد كبير البنية التحتية، وستليها أشرس عملية قمع للسكان العرب السنة المحليين، ولا شك أن هذا ليس انتصار المجتمع المدني العراقي الذي يسعى إليه القادة الأميركيون، ومن المؤكد أن تطوراً مماثلاً سيؤدي إلى موجات جديدة من حشد القوى للجهاد.إذاً، ما السياسة التي يلزم أن تتبعها الولايات المتحدة؟ تتوافر في المنطقة المكونات الضرورية لإنشاء حلقة احتواء غير محكمة حول "داعش"، وتشتد هذه الحلقة حين يحاول "داعش" دخول مناطق ينتمي سكانها إلى مجموعات إثنية ودينية أخرى، وعلى الولايات المتحدة أن تدعم هؤلاء المدافعين بالسلاح، والمال، والمعلومات، والغارات الجوية، عندما يتعرضون للضغط، ولكن ينبغي ألا تتوهم أن هؤلاء قادرون على إنزال الهزيمة بـ"داعش"، وإعادة احتلال مساحات كبيرة من الأراضي العراقية، وتحويل هذه المناطق إلى مجتمع سياسي عراقي متماسك.* باري بوسين