أكتب تلك السطور من لبنان؛ حيث العنوان "شغور رئاسي"، لا يستطيع هذا البلد الجمهوري الجميل أن ينتخب رئيساً على مدى شهور طوال، في حين يحبس سكانه وزائروه أنفاسهم مخافة اندلاع حرب طاحنة في أي لحظة، لا يبدو أن قرار إشعالها في يد الدولة أو أي من أبناء البلد نفسه.

Ad

أما السودان، فقد تم تقسيمه إلى بلدين، وجار العمل على "تقسيم المقسم"، عبر حروب أهلية طاحنة في الغرب والجنوب، في ظل حالة فقر ومرض مستفحلة.

الأمور ليست أفضل طبعاً في سورية، التي تحولت إلى مآساة كبيرة، بفعل حرب أهلية أخذت بعداً طائفياً، وتدخلات إقليمية ودولية، حولت البلد إلى أكبر ساحة لاحتضان وتفريخ الجماعات الإرهابية.

أما العراق فما زال في النفق الطويل المعتم، حيث بات تحت رحمة حكم طائفي، وهيمنة دولة جارة، واحتلال فصيل إرهابي لجزء كبير من أراضيه، ودعاوى انفصال، وعمليات إرهابية لا تنقطع.

وفي اليمن سيطرت "الميليشيات" الحوثية على الدولة واستقال الرئيس كما انهارت الحكومة، وزادت حدة المطالبة بانفصال الجنوب، ليعود اليمن دولتين على الأقل، تمهيداً لإعلان المزيد من الأقاليم رغبتها في الانفصال.

ما زالت مصر غير قادرة على عبور الأزمات الصعبة، كما أن تونس لم تتحرك خطوات واسعة إلى الأمام، وكذلك الجزائر التي تواجه تحديات هائلة وصعوبات كبيرة.

تلك حال الجمهوريات العربية، فماذا عن الملكيات؟

لقد هيمن شعور بالقلق على كثيرين في الساعات الأولى التي تلت إعلان نبأ رحيل الملك عبدالله بن عبد العزيز، لكن لحسن الحظ تم حسم الهواجس بسرعة ومهارة؛ إذ تم تفعيل الأوامر الملكية السابقة في شأن تصعيد الأمير سلمان إلى منصب الملك، وتثبيت الأمير مقرن ولياً للعهد.

إن تثبيت التراتبية المتفق عليها في المنصبين الأكثر أهمية شيء حيوي، لكن الأهم من ذلك هو اختيار الأمير محمد بن نايف ولياً لولي العهد، بمعنى أن يأخذ دوره كولي للعهد في حال خلو هذا المنصب، تمهيداً لجلوسه في مقعد الملك لاحقاً، إذا جرت الأمور على نحو طبيعي.

لا يعني هذا أن الأمور استقرت واستقامت على أفضل نحو، وأن المملكة باتت مقبلة على عصر من النعيم والهدوء والرفاه بلا أي منغص؛ إذ تبرز جملة من التحديات الخطيرة والهائلة بوجه الحكم الجديد، على الصعيدين الداخلي والخارجي، فضلاً عن احتمال ظهور صعوبات جديدة حين يأتي اليوم الذي يجب أن يتم فيه اختيار أحد أحفاد الملك المؤسس ليخلف الأمير محمد بن نايف في سلم السلطة العليا.

لكن مقارنة بسيطة بين ما جرى في السعودية وما يحدث في الجارة الجمهورية (اليمن) ينصف الحكم السعودي، ويمنحه الإشادات الكبيرة، لقدرته على تجاوز محنة "التنافس على السلطة"، وعقبة نقلها إلى جيل الأحفاد.

لن يمر وقت طويل حتى يحدث انتقال للسلطة داخل دول خليجية أخرى، ليس بفعل الانتخابات بالطبع، لأن الحكم في دول مجلس التعاون الست يبقى حقاً حصرياً لأبناء الأسر الحاكمة.

يتلقى السلطان قابوس العلاج إثر مرض مؤثر في ألمانيا، لكنه يترك وصية في خزينته باسم من يخلفه، ويحتم النظام الأساسي العماني تثبيت صاحب هذا الاسم سلطاناً في حال إخفاق الأسرة الحاكمة في اختيار أحد أبنائها حاكماً في مدة زمنية محددة.

كانت عمان قد شهدت بوادر احتجاج وتمرد في فورة ما كان يعرف بـ"الربيع العربي"، لكن حزمة من الإجراءات التي اتخذها السلطان، والتي جمعت بين المعالجات الأمنية والسياسية والاجتماعية، كانت كفيلة باحتواء تلك البوادر، والخروج من المشكلة.

وفي الإمارات تبدو الأمور مستقرة في حال نشأت الحاجة إلى انتقال للسلطة، بفعل توازن القوى وفاعلية الحكم في تلك الدولة الاتحادية الفتية والمزدهرة، حتى إن الجميع يعرف اسم الرئيس المقبل، ويفهم توجهاته، ويستوعب رؤيته.

لو قورنت الإمارات بلبنان الجمهوري لاستخلصنا الكثير من العبر، ولو قورنت السعودية بالعراق لظهر فرق كبير، كذلك الذي يمكن أن يتضح حين نقارن سلطنة عمان بليبيا، أو اليمن بالمغرب.

لا يتعلق الأمر بالنفط؛ فثروة عُمان والبحرين، وكذلك الأردن والمغرب، من هذا السائل الأسود لا يعول عليها، وليبيا والجزائر والعراق لم تكن تنقصها أبداً براميل بترول، لكن الغموض أو الفوضى أو انسداد الأفق بات يهيمن على تلك الدول الثلاث الأخيرة.

ولا يتصل الأمر أيضاً بدعاوى التبعية للولايات المتحدة، فجمهوريات عدة لم تقصر في هذا المضمار، ولا يمكن أن نعزوه كذلك إلى أن دول الخليج "غير ديمقراطية"، لأن معظم الجمهوريات المأزومة راهناً كانت عنواناً للقمع.

إذا اعتبرنا أن العقود التي انصرمت منذ إعلان قيام الجمهوريات في العالم العربي كانت شوطاً أول طويلاً في منافسة بين النظم الملكية (التي وصفت كثيراً بالرجعية والعمالة)، وبين النظم الجمهورية (التي وصفت كثيراً بالشعبوية والتسلط والديماغوجية)، فيبدو أن النتيجة قد انتهت بفوز الفريق الأول.

لقد استطاعت الأنظمة الملكية، على أقل تقدير، أن تُبقي على دول متماسكة، وحكومات تحظى بالشرعية، ومؤسسات قادرة على الوفاء بالدور والاستدامة، وربما فوائض مالية وأثر إقليمي ودولي متصاعد.

ما زال لدى مصر وتونس فرصة لتعديل النتيجة في الشوط الثاني الذي بدأ مباشرة في أعقاب انتخاب الرئيسين السيسي والسبسي، لكن تلك الفرصة ستظل احتمالاً من جهة، وستبقى حظوظ نجاحها معلقة بدعم النظم الملكية المستقرة من جهة أخرى.

ليس هذا المقال بالطبع دعوة لاستبدال النظم الملكية بالجمهورية، فهذا أمر ضد حركة التاريخ والمنطق، ولكنه خطوة نحو استكشاف الأسباب التي أدت إلى سقوط هذا العدد الكبير من الجمهوريات العربية، وبقاء عدد آخر منها في أزمات لا تنتهي.

لماذا بات لدينا "شغور رئاسي" في دولة و"ولي ولي عهد" في دولة أخرى؟ هذا موضوع مقال مقبل بإذن الله.

* كاتب مصري