الفنان الكبير عبدالكريم عبدالقادر...

Ad

اسمح لي أن أبعث لك برسالة شخصية وخاصة جداً هنا أمام الملأ، لا لصعوبةٍ في أن أجعلها تصل إلى عنوانك الشخصي، لكن لأن المنزل الذي تقيم به جسداً ليس هو عنوانك، إن منزلك الحقيقي هو قلوبنا العامرة بك، قلوبنا التي أثّثها فنّك طوال السنوات الماضية بالدفء وجمال الأحاسيس المورقة هي مقر إقامتك الدائم بالنسبة لنا، وهي عنوانك الذي اعتدنا على زيارتك به كلما أردنا الاطمئنان لا عليك فقط، ولكن على قلوبنا لنتأكد أنها بخير وعافية عندما نشتَمّ في أرجائها بخور صوتك، وماء ورد حنجرتك الذي ما فَتِئتَ تصبّه في كؤوس أرواحنا حتى غدت أرواحنا مزاراً للفراشات وأمنيات الشذا بفضل جنائن فنك وجنّاته.

أما بعد...

أردت يا سيدي أن أبلغك مدى سعادتي وامتناني للحياة التي جعلتني أعيش زمناً أنت فيه، ومنحتني فرحة أن أعي أولى قطرات ضوء تسرّبت من صوتك لتقرأ فاتحة الجمال حينها لـ "ليل السهارى"، وأكاد أجزم حينها أن النجمات أعادت "دَوْزَنة" أوتارها لتغني بصوت فضّي كلونها منشدة "سرى الليل يا قمرنا"، في ذلك الوقت كنت صغيراً، ولكن كبير بما يكفي لأتبع قلبي مصغياً لنداء متعة آسر لم تكن سنون عمري القليلة تسمح لي بالكشف عن سرّ الفتنة في ذاك النداء، إلاّ أنني تبعته!

تمر الأيام، وتتكدّس السنوات في صندوق العمر وصوتك لم يتوقف لحظة قط عن سكب ماء ورده، ودهن عوده في هذا الصندوق ليعطر أسمال الأيام ويبعث في رثّها الحياة، وكلما زاد طولي سنتيمتراً ظننت أن لصوتك بعض فضل، وكلما اتسعت السماء في نظري شبراً، ظننت أن لحنجرتك بعض جميل، في بداية سنوات المراهقة كانت أغانيك وتداً من أوتاد القلب، وفرشاة أخرى أرسم بواسطتها جدارية لملامح الحب الذي أحلم أن يكون، تلك فترة كانت تشكل منعطفاً مهماً للأغنية الكويتية، فترة ثرية ومميزة بعطائها، وزاخرة بفنانيها من معاصريك أو من هم بعدك بقليل أمثال الأساتذة صالح الحريبي، مصطفى أحمد، يحيى أحمد، غازي العطار، حسين جاسم، غريد الشاطئ، عباس البدري، فيصل عبدالله، وآخرين، زخم من الأصوات قاد نقلة حديثة ومنعطفاً في الأغنية، ليس على مستوى الكويت فحسب، وإنما على مستوى منطقة الخليج، وملأنا بالمتعة وسحر الطرب، جيل من الأصوات لم يبقَ منه سوى صوتك الذي كان ومازال أميناً على قلوبنا، حافظاً لها من الضياع، ومانعاً لها من الصدأ، صوتك الذي أدخل إلى قلوبنا الفرح من بوابة الحزن!

حزن شفيف لم نستطعمه من سواك، حزن لا يوشّح صدورنا بالسواد وإنما بقوس قزح، ولا يضيّق الفضاء على عصافير البهجة، وإنما يمهّد الطريق لأجنحة غنائها لترتقي سلّمها الموسيقي برحابة شجن، صوتك من "أنْسَن" وحشية الحزن ليجعله لحافاً دافئاً يدثِّر صقيع لحظاتنا، ويمنحها طمأنينة الرضا، إلا أن ذلك لم يكن أيقونتك السحرية، وإنما كان فقط جزءاً منها، فالجزء الآخر هو أنك كنت ومازلت تَعْتبِر الفن ماء طُهر تتوضأ به قلوبنا من الدرن!

في هذه الرسالة الشخصية أردت فقط أن أقول كم كان ذلك رائعاً منك... ولنا، وكم هو رائع لي أن أعيش زمناً أنت به، وأتمنى من الله أن يمتدّ ذلك سنوات طويلة قادمة.