سلسلة كتب {أوضاع العالم} التي تستند إلى شبكة واسعة من الباحثين وأصحاب الاختصاص، تهدف إلى تشـخيص حال المعمـورة وتتبُّع أوضاعها ورصد تطوّراتها من خلال معاينة ووصف الطفرات الكبرى السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والدبلوماسية، كذلك التكنولوجية أو البيئوية، ما يُتيح للقارئ المقارنة بين أحداث تبدو في ظاهرها معزولة متباعدة، فيُقارب فيما بينها بإعادة موضعتها ضمن سياقٍ إجماليّ.

Ad

تأتي موضوعات كتاب {الحروب الجديدة}، التي تناولت قضايا الحروب المشتعلة اليوم والتي تتركّز في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط عموماً وفي البلدان العربية خصوصاً، لتُكمِل موضوعات الكتاب الذي صدر العام الماضي ضمن السلسلة نفسها بعنوان {جبروت الأمس واليوم}. والكتابان، وهُما من ترجمة نصير مروّة، متوافران في المكتبات ولدى مؤسّسة الفكر العربي و}منتدى المعارف} الذي يقوم بتوزيعهما.

كتب مقدّمة الكتاب أستاذ العلاقات الدولية في المعهد العالي للعلوم السياسية في باريس، البروفيسور برتران بادي. والمقدّمة هي عبارة عن بحث كامل متكامل بعنوان {حروب الأمس واليوم}.

يقع الكتاب في 288 صفحة من القطع الوسط، ويشتمل على ثلاثة أقسام: يعتمد القسم الأول وجهة نظر إجمـالية جامعة لدراسة تحوّلات الحروب. أمـا القسم الثاني فيدرس أشكال النزاعات المعاصرة وصورها والفاعلين فيها، عبر دراسة عددٍ من الحالات المختلفة. ويتكوّن القسم الثالث من مقالات {جهوية} أو}إقليمية} تسلِّط الضوء على التوترات الاستراتيجية والدبلوماسية العظمى، للكشف عن تطوّر النزاعات في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية. فمن العراق إلى أفريقيا الوسطى، ومن أوكـرانيا إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية مروراً بسـورية ومالي أو الصومال، تعود النزاعات سيرتها الأولى، وبقوة، لتتصدّر الأحداث الدولية. وفي حين أن أسـلحة جديدة تظهر في سماء المعارك مع الطيارات من دون طيار (الدرون) أو مع الفضاء الافتراضي الإلكتـروني، وفي حين أن رهانات المواجهات تتطوّر ــ معارك لأجل النفوذ، إعادة تحديد أو تعريف الحدود، عسـكرة سياسات الهجرة، المنافسات حول الموارد الطبيعية ــ فإن ثمّة مسـألة تطرح نفسها: هل تغيّرت طبيعة الحرب منذ نهاية الحرب الباردة، وخصوصاً، بعد 11 سـبتمبر 2001؟ أوَ يكون ما يدور أمام أعيننا {حروباً جديدة} تعيد النظر في الترسيمات القديمة، وتقلب الأفكار السائدة عن {الأعـداء} و}الإقليم} و}السيادة}، وحتّى عن فكرة {النظام} و}الفوضى}؟

مختبر حرب

يبحث الكتاب مفهوم «الحــروب الجــديـدة» فيرى أن هذه الحروب هي إما حالة من التوتر الدائم، وإما حالة من «لا حرب، لا سلام»، وإما حروب متقطّعة ولكن متتالية، حـروب بلا نهـاية أو «فوضى منظّمة». ويرسم الكتاب بانورامـا شاملة للحروب المعاصرة  في أربعة أقطار العالم، كما يرسم حدود ميادين المعارك الدائرة فيها، ويبحث في العوامل المولّدة لها عبْرَ تفكيك المؤسّسات وتفكيك المجتمعات، ويكشف الأطراف الضالعين في هذه الحروب والمؤسّسات والدول المنخرطة في تمويلها وتسليحها (وبخاصة في البحث الذي يحمل عنوان: «المقاولون الدوليون لأنواع الحروب الدينية والمذهبية»)، كذلك يكشف عن الأسلحة المستخدمة فيها، وعن مبيعـات الســلاح التي تُستخدَم أداة نفـوذ في العلاقات الـدولية. وفي الكتاب بحث خاص في السلاح الجديد المتمثّل بالطائرات من دون طيار («درون»)، وبحث آخر في صناعة السلاح في إسرائيل، والاتّجار به استيراداً وتصديراً، وهو بعنوان «إسرائيل، مختبر حرب».

ومن الدراسات اللافتة في القسم الأول من الكتاب، بحثٌ في تنازل الدول عن مهمّاتها الحربية إلى شركات خاصة تتعهّد القيام بها، وهو بعنوان «خصخصة الحــروب؟ الشركات المتعددة الجنسية والمحاربون المرتزقة»، وبحثٌ آخر في خفايا الحروب الرقمية، وهو بعنوان «النزاعـــات الرقميــة والحـروب الرقميــة». وفي الكتاب دفتر خرائـط وملحقات إحصائية تساعد القارئ على رؤية ديناميات النزاعات المعاصرة.

الكونغو، الصومـال، نيجيريا، مـالي، جمهورية أفريقيـا الوسطى، ســوريـة، العـراق، إسرائيل - فلســطين، أوكرانيـا... انتهت الحـربُ الباردة، ولكن من دون أن تُسفر عن عالمٍ يعمّه السلام. وسرعان ما اندلعت، بعد عقدين من نهايتها، عشرات الـنزاعات المسلّحة التي أدمت الكرة الأرضيّة. وهذه الحروب التي تجدّدت في بعض أنحاء من أوروبا، غالبيتها تدور اليوم في بلدان الجنوب. وطبيعة هذه الحروب قـد تغيّرت بصورة جذريّة، وقلّة منها يمكن وصفها بأنّها حروبٌ تتواجه فيها دول، أمّا البقيّة الباقية فقوامها مواجهةٌ بين دولةٍ، غالباً ما تكون قيد التفكّك والانحلال، وانتفاضة أو مجموعة انتفاضات عليها، بهدف الإمساك بزمام السلطة، والسيطرة على الأرض وعلى الموارد الطبيعية.

ولا شكّ في أن الانقسامات الإثنية والدينية لا تزال تغذّي هذه النزاعات الجديدة، غير أنّها تتأصّل بصورة أساسيّة في النتائج الناجمة عن العولمة التي تضاعف من غنى الأغنياء وتزيد الفقراء فقراً. وإن الحروب التي يشهدها القرن الحادي والعشرون، وإن اندرجت في إطار المنافسات الجارية بين القوى العظمى، القديمة منها والجديدة، فهي في معظم الحالات ناجمة عن التفكّك المؤسّسي والاجتماعي.

كتاب {أوضاع العالم}، الذي هو أشبه ما يكون بـ {رواية للوقائع والأخبار الدولية}، يكشف في مـا وراء آنيّة الأحداث وطابعها المباشر، عن الاتّجاهات الكبرى للتغيّرات الجـارية في المعمورة كلّها.