يجري الحديث في مصر راهناً عن خمس قنوات فضائية تبث من تركيا لمصلحة تنظيم "الإخوان"؛ هي قنوات "رابعة"، و"الشرق"، و"مكملين"، و"مصر الآن"، و"الشرعية"، باعتبارها وسائل إعلام "مغرضة وتحريضية".
تلك القنوات متهمة على نطاق واسع بأنها "منصات لدعم الإرهاب"، ويرفض الكثير من الباحثين والمحللين اعتبار أنها "وسائل إعلام"، لأن المحتوى الذي تقدمه "غارق في التحريض والاختلاق وبث الكراهية".لقد تابعت بعضاً مما تبثه تلك القنوات، ووجدت أنها لا تقدم بالفعل محتوى إعلامياً، بقدر ما تقدم وصلات مستمرة من خطاب الكراهية والدعوة إلى قتل رجال الجيش والشرطة المصريين، بل إلى القيام بعمليات إرهابية.تقوم تلك القنوات أيضاً بأدوار استخباراتية واضحة، حيث إنها تعرض شرائط وتسجيلات، يرجح أنها "صُنعت" أو "سُجلت" بواسطة أجهزة استخباراتية، على الجمهور، في توقيتات تخدم سياسات دول معينة، من دون أن تشير إلى الطريقة التي حصلت بها على تلك "التسريبات".إن أي تحليل موضوعي للدور الذي تقوم به تلك القنوات لا يمكن أن يقود إلا إلى أنها تسعى إلى تقويض الدولة في مصر وإثارة العنف والكراهية وإحداث الفوضى الشاملة، طبعاً دون أن تكون معنية بأي حديث عن الدولة التي تبث منها، أو تلك التي تمولها، أو أي دولة أخرى قريبة أو بعيدة.لقد خاطبت وزارة الخارجية المصرية نظيرتها التركية، في فبراير الماضي، لوقف بث تلك القنوات، التي تنطلق أصوات مذيعيها من أستديوهات في "إسطنبول"، لكن أنقرة رفضت الطلب المصري، متعللة بـ"حرية الإعلام"، وبأن تلك القنوات "حاصلة على تراخيص بث من دول أوروبية أخرى".يتناقض هذا المفهوم مع مبدأ السيادة الوطنية في تنظيم المجال الإعلامي، وهي سيادة تنصرف بكل تأكيد إلى كل ما يبث عبر مجال السيادة، كما أن تركيا نفسها لا تسمح بوجود أي ممارسة مشابهة إذا كانت هذه الممارسة تستهدفها ولا تعمل لمصلحتها.فقد سبق أن شنت أنقرة حرباً على بعض القنوات التركية المعارضة التي كانت تبث من خارج أراضيها، وضغطت على الدول التي تستضيفها حتى أغلقتها، على الرغم من أن تلك القنوات تنطق بلسان حال الأكراد الأتراك، الذين يتهمون أردوغان باضطهادهم وحرمانهم من حقوقهم.لقد استطاع أردوغان أن يغلق قناة كردية تابعة لحزب العمال الكردستاني في بلجيكا، وثلاث قنوات في الدنمارك، كما ألزم ذلك البلد الأخير بتوقيف 12 من قيادات الحزب المعارض فيه وإحالتهم إلى المحاكمة.ضغط أردوغان بكل الوسائل على هاتين الدولتين لإغلاق تلك القنوات، كما أغلق قنوات وأوقف بث برامج داخل تركيا، لاستشعاره أنها تعارضه أو تخدم وجهة نظر خصمه اللدود فتح الله غولن.لم يكتف أردوغان بذلك، لكنه أغلق أيضاً موقع التواصل الاجتماعي الشهير "تويتر"، كما أغلق موقع الفيديو "يوتيوب" في بلاده في مارس الماضي، كما هدد بإغلاق موقع "فيسبوك"، وحول تركيا إلى "أكبر سجن للصحافيين في العالم"، كما وصفتها منظمة "مراسلون بلا حدود".لا يتعلق الأمر إذا بتركيا فقط، لكنه يتعلق أيضاً بدولتين أوروبيتين كثيراً ما احتلتا المراتب المتقدمة في قوائم الحريات العالمية.ثمة عشرات القصص التي تشير إلى استخدام الدول الغربية حقها في إيقاف بث المواد المحرضة على العنف أو الكراهية دون أن تعتبر أن ذلك مساس بالحق في حرية الرأي والتعبير.يبرز في هذا الصدد بالطبع الحديث عن المصطلح المثير للجدل "الأمن القومي"، إذ توجه الاتهامات لكثير من الدول بأنها تتذرع بهذا المصطلح من أجل قمع حرية الإعلام.يقول أرنولد ولفرز إن "الأمن القومي" بمعناه الموضوعي يتعلق بمدى غياب التهديدات الموجهة للقيم المكتسبة في المجتمع والدولة، كما أكد باحثون كثيرون أن "الأمن القومي" يتحقق عبر السياسات الحكومية، التي تستهدف "خلق الظروف المواتية لحماية القيم الحيوية".يظل هذا التدبير الحكومي جزءاً من مسؤولية حماية أمن الدولة والمواطنين والخصوصية والكرامة الإنسانية والوحدة الوطنية والتماسك الأهلي والآداب وحقوق النشء والفئات المهمشة والضعيفة.وتظل قدرة كل دولة على أن تمارس تلك المسؤولية دون أن تجور على حرية الرأي والتعبير مناط الاهتمام والتقدير.وسيكون من المناسب جداً توضيح الحدود التي يمكن أن تعتبر فيها أي دولة أن ممارسةً ما عبر وسائل الإعلام التقليدي أو الجديد "حرية رأي" أو "انتهاكاً للقيم"، لكن هذا لا يحدث بشكل دقيق في كل الأحوال.إن الحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في إعلام حر منفتح بلا أي رقابة أو تضييق، يستلزمان صيانة جملة أخرى من الحقوق؛ على رأسها الحق في الخصوصية، وفي الحصول على معلومات سليمة غير مضللة، وعدم التمييز بين المواطنين، أو التحريض على العنف، أو بث الكراهية.إن وظائف الدولة متشعبة ومتنوعة ومعقدة، لكن على رأسها بالطبع صيانة الأمن القومي، وقد بات واضحاً أن مفهوم الأمن القومي يتعلق مباشرة بحماية القيم الحيوية للأمة.وإذا كانت الدولة تسخر موارد وطاقات عديدة للدفاع عن السيادة والتراب، فإنها أيضاً تجهز وسائل وأدوات مختلفة للدفاع عن القيم كما تشخصها وتعتقد فيها.وستظل قدرة الدولة على توفير إطار مناسب من حرية الرأي والتعبير محل تقدير كبير، كما ستظل التدابير التي تتخذها من أجل حماية القيم الوطنية من الممارسات الإعلامية الحادة محل تشكيك وانتقاد في كثير من الأحيان.ستتصاعد الشكوك في سلوك الدولة حيال حرية الإعلام كلما كان هذا السلوك انتقائياً يكيل بعدة مكاييل، وسيسود الاعتقاد في سلامة منطلقات هذا السلوك كلما كان مستقيماً وعادلاً.وسيكون من الصعب جداً أن تسهل دولة انطلاق خطاب إعلامي تحريضي ومقوض للأمن القومي من أراضيها ضد دولة أخرى، في وقت تقوم فيه بمنع الكثير من وسائل الإعلام عن ممارسة أدوارها الطبيعية في التعبير عن الرأي أو كشف الفساد.* كاتب مصري
مقالات
مصر وتركيا... وقنوات الكراهية
01-03-2015