التطرف الديني السبب الأول للإرهاب
هذا ما أكده "المؤشر العالمي للإرهاب" في تقريره السنوي، إذ تجاوز "التطرف الديني" منذ 2001 حدود "النزعة الانفصالية القومية" ليتصدر ويصبح المحرك الرئيسي للهجمات الإرهابية عالمياً، والتي سببت 18 ألف حالة وفاة عام 2013 وحده، بزيادة مقدارها 60%، وتعزى غالبيتها إلى 4 جماعات فقط: داعش، بوكو حرام، طالبان، القاعدة. ويشير التقرير إلى أن العراق أكثر الدول تضرراً ثم أفغانستان وباكستان، كما يشير إلى أن 25% من الوفيات المسجلة كانت ضد المدنيين و20% ضد الشرطة، وكانت أكثر الهجمات الدموية ضد الشخصيات والمؤسسات الدينية.
يأتي هذا التقرير العالمي ليعزز ما سبق أن ذكرته وكررته وأكدته مع كثير من المحللين، من أن "الإرهاب" نتاج "فكر منحرف" في الأساس هو فكر "التطرف الديني" الذي لازم المجتمعات العربية على امتداد التاريخ الإسلامي، لكنه كان يعيش منزوياً على هامش المجتمعات، لا تأثير له في المجرى الثقافي والسياسي والاقتصادي والديني العام. ويرجع بداية العنف الإرهابي إلى "واقعة التحكيم" التي رفضها "الخوارج" وسلوا سيوفهم على المجتمع الصحابي، ثم على الدولتين الأموية والعباسية، تحت شعار "لا حكم إلا لله" الذي استمد منه دعاة الحاكمية في العصر الحديث "أيدلوجيتهم العنيفة"، فالخوارج بهذا الاعتبار، أول نتظيم إرهابي مسلح، لأنه لم يكتفِ بتكفير الخصم السياسي، وإنما استباح دمه وماله وعرضه. وظل "التطرف الديني" على هامش المجتمعات العربية إلى أن حصلت "الصدمة الحضارية بالغرب" وحضور الأجنبي وانتشار مظاهر الحياة الحديثة وتغير السلوكيات والثقافة، ومن ثم سقوط الخلافة العثمانية، فأصبح له أنصار وجماعات وخطباء ينادون بعودة الخلافة، ويهاجمون "دعاة الإصلاح" ويرفضون مظاهر الحياة الحديثة، ثم تطور إلى تحريض الجماهير وشحنها ضد الحكومات والنظم القائمة باعتبار أنها توالي الكفار وتعطل فريضة الجهاد وتحكم بغير شرع الله وتسمح للمرأة بالعمل والاختلاط. ثم اشتد التطرف ليحكم على مجتمعاتنا بالجاهلية، وظلت هذه الدعوات التحريضية المصاحبة بالعنف، على امتداد 70 سنة، تعمل عملها في العمق المجتمعي، لتستدعي ما كان كامناً في الأغوار البعيدة للنفسية الجمعية من موروثات تعصبية، ولتستحضر ما كان مهمشاً على الحواشي من فكر متطرف، ليتصدر المشهد العام، مستغلاً ظروف الفوضى والاضطرابات التي تمر بها المنطقة، ويعود "التطرف الديني" أكثر توحشاً وضراوة وفتكاً، ليمجد "تفجير الذات" باعتباره "أسمى الجهاد" ويتصيد شبابنا ويجندهم لمشاريعه العدمية، وساعدت وسائل التواصل الحديثة في جذب المزيد من الأنصار إليه بعد أن وجد "حواضن اجتماعية" مساندة.كتبت ذات مرة أن "خوارج عصرنا" أسعد حالاً من القدامى، إذ يجدون دعماً وتمويلاً واحتضاناً ومنابر وفضائيات ومنتديات تبث طروحاتهم وتمجد أفعالهم!التقرير العالمي بإعلائه "الدافع الديني" للعنف الإرهابي، دافعاً رئيسياً أولياً، على غيره من الدوافع الأخرى: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إنما يضعف حجج هؤلاء الذي يحاولون إقناعنا بأن الإرهاب، سببه الأساسي، هو "غياب الحريات" و"استبداد الأنظمة" أو "فقدان العدالة الاجتماعية" وشيوع البطالة والفساد والفقر أو "مظالم الغرب وأميركا" و"عدوانية إسرائيل"، مما يدل على وهن هذه الدوافع كمحركات رئيسية للشباب في تفجير أنفسهم، وإن كنا لا نستبعدها كدوافع "ثانوية". كما يبطل هذا التقرير حجج هؤلاء الذين يعللون "الإرهاب" بأنه رد فعل لـ"الغلو العلماني" واستفزاز العلمانيين للمشاعر الإسلامية، كما يذهب بعضهم، أو أنه بسبب "شيوع مظاهر التحلل الأخلاقي" كل هذه الدوافع، إنما هي ذرائع "أيدلوجية" و"سياسية" توظفها جماعات وتنظيمات سياسية ودينية بهدف كسب الرأي العام، ولا تصلح "معرفياً" تشخيصاً للظاهرة الإرهابية وعلاجها، ومما يؤكد تهافت هذه الدوافع:1. لسنا الأمة الوحيدة التي عانت غياب الحريات والاستبداد وفقدان العدالة ولسنا الشعب الوحيد الذي عانى مظالم الغرب، شعوب عديدة عانت منها أكثر منا بمراحل، اليابان ضُرِبت بالقنابل، وكوريا الشمالية سحق شبابها، وشعوب عديدة في إفريقيا وأميركا الجنوبية وآسيا تعاني الاستبداد وغياب العدالة والحريات وشيوع البطالة والفساد والفقر، ومع كل ذلك لم تنتج "قنابل بشرية" ولم تخرج "انتحاريين".2. لو كانت معالجة العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كافية لمعالجة الظاهرة الإرهابية أو تحجيمها، لكانت أوروبا التي أعطت كل الحقوق والحريات لهؤلاء الشباب الذي التحقوا بداعش، ناجحة في حل المشكل الإرهابي.3. إن تسييس التطرف الديني وإيجاد مبررات إنسانية وأخلاقية ووطنية ودينية له، إنما يمد في عمره، ويجذب المزيد من شبابنا إلى أحضانه، من منطلق أن "تبريرات الإرهاب" هي الأكثر خطورة من العمل الإرهابي، لأنها تهيئ المناخ الحاضن لانتشار ثقافة العنف وتمجيدها.4. "التطرف الديني" ليس رد فعل "للمظالم" الداخلية والدولية، فهو موروث ثقافي سابق تاريخياً على هذه المظالم، وموصول بتطرف الخوارج "السلف الصالح" للتنظيمات المعاصرة.5. إن أساس "الإرهاب" فهم ضالّ "للجهاد" والمفاهيم الدينية الأخرى: الولاء والبراء، التكفير، عدم التشبه بالكفار، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالإرهاب أساسه انحراف في فهم "الجهاد" هذا هو أصل البلاء والضلال، وكل تبرير خارجي آخر للإرهاب، إنما هو من قبيل "المسكنات". والعلاج الحقيقي للوباء الإرهابي، لا يتم إلا بمراجعة توصيف "الجهاد" في المناهج والمنابر، بما يتفق وطبيعة العلاقات الدولية ومعطيات العصر ومقتضيات الحوار بين الأديان والحضارات، لندرس طلابنا أن "جهادهم الحقيقي" هو في تملك سلاح العلم والمعرفة والتقنية لخدمة دينهم ووطنهم، أما "الجهاد العسكري" في ميادين القتال فهو من مهمة الجيوش النظامية لا الأفراد ولا الميليشيات.* كاتب قطري