الناقد صديقه النص
النص وحده، والنص فقط، هو صديق الناقد الذي يحترم رأيه ويخلص في قراءته لهذا النص بعيداً عن صداقته لكاتب النص ومدى ارتباطه به. وعلى العكس، كلما كان كاتب النص صديقاً كانت المهمة أكثر مرارة ومشقة، فيتوزع الناقد داخلياً بين علاقته الشخصية بالكاتب وبين صدقه تجاهه. هي بالتأكيد مهمة صعبة وقاسية يخسر فيها الناقد صداقات أحياناً، وأقول أحياناً، لأن أغلب الحالات تقرب بين الكاتب والناقد حين يكون النقد صادقاً ومنطقياً، ولكن الناقد، في المقابل، لا يخسر رأيه ولا يخسر نفسه. قبل أكثر من عشرين سنة تقريباً وفي بدايات الشاعر دخيل الخليفة، وهو صديق حميم، قرأ الخليفة مجموعة من أشعاره في ملتقى الثلاثاء الأول، وطرحت أشعاره للنقاش، وكان من السهل جداً أن أقول لدخيل الصديق عبارات ممجوجة ومكررة مثل "جميل، رائع، مدهش"، ولكنني لم أفعل، ووضعت صداقته جانباً، وقلت له: "لديك أكثر من صوت في قصيدتك حاول أن تجد صوتك حتى تكون دخيل الخليفة وليس شخصا آخر"، أعرف أنه لم يغضب مباشرة، وأعرف يومها أنه لم يرتح كثيراً لما قلت. ولكنني كنت صادقاً، تماماً مثلما كنت صادقاً بعد عشرين سنة لأقول بأنه صوت مهم له تفرده في الساحة الكويتية.
هذه المقدمة الطويلة نسبياً تمهيداً لمن ردد في أكثر من مناسبة أنني قسوت على الروائيين الصديقين عبدالوهاب الحمادي وسعود السنعوسي في المقالين السابقين عن روايتيهما "لا تقصص رؤياك" و"فئران أمي حصة"، وبالرغم من أنني قلت، ومازلت عند رأيي، إنهما أمل الرواية الكويتية وفرسانها، وأضيف هنا عبدالله البصيص الذي نسيته حينها. ولكن ذلك لا يعني أن نتبع القارئ العادي الذي يدخل النص ويخرج دون أن تكون مهمته مهمة نقدية، ودون أن يطلب منه سوى الاستمتاع بالنص لا أكثر. والمعروف دائماً أن عدد القراء يفوق عدد النقاد الذين يعملون على تحليل النص وقراءته بعين مغايرة، والكاتب عادة يسعده رأي قرائه الإيجابي لنصه، ولكنه لا يلتفت إلا للناقد الصادق حين يبحث عن سبل تطوير نصه.لم أبحث عن نقاط ضعف لألتقطها وأترك الخطوط العريضة، وكان ذلك ممكناً، ولكنه ليس الهدف من النقد. كان الهدف الأساس هو أن يفكر الكاتب أكثر من مرة حين يقدم على عمل لاحق، فقد تفشل رواية نقدياً وتنجح جماهيرياً، وذلك يحدث على مستوى العالم كما هو الحال مع دان براون في المدرسة النقدية، وقد يحدث العكس فينجح عمل ما نقدياً ويخسر جماهيرياً، ولكن على الكاتب أن ينتبه دائماً إلى العمل القادم. فالقارئ ليس مضموناً دائماً إذا لم يجد تطوراً في فكر الكاتب، وتجديداً لفكرته وطريقة تعامله مع النص. وهو صديقك اليوم وصديق سواك غداً.لا أعتذر هنا عما كتبت، ولكني أصرّ على أن الناقد الذي يبدو جارحاً أو قاسياً لجمهور الكاتب هو الأصدق للكاتب، وهو الأصدق لعمله النقدي، وهو عمل لا يقل عن النص الأصلي عرضة للنقد والرأي الآخر أيضاً، أما الصداقة والعلاقة الشخصية فليست موضوعاً هنا، ويجب أن تبقى أمراً مفروغاً منه.