فرناندو بيسوا في «لستُ ذا شأن» ينسج بقلمه حياة ثالثة... ويجتاز كفَنَهُ
تَعدُّدَ اللغات تعدُّد مرايا لوجه إنساني واحد. فالتجربة الإنسانية التي يحتضنها الأدب تجتاز اللغة إلى الإنسان والجمال بمطلقيّتهما التي تنسجم مع مفهوم الوحدة في الوجود على احترام كبير للخصوصيّة والانتماء بمعناه الإيجابي.في «لستُ ذا شأن» اختار الأديب اسكندر حبش شذرات للشاعر فرناندو بيسوا وترجمها وقدّم لها.
في مقدمة «لستُ ذا شأن» يقدّم اسكندر حبش رسماً تقريبياً لبيسوا معتبراً إيّاه أحد أكبر كتّاب العصر الذين لم ينشروا نتاجهم الأكبر في حياتهم: «من هنا تجيء الوثائق الكثيرة (27423 نصّاً) التي تؤلّف جلّ عمل الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، لتكتشف بعد رحيله في العام 1935». وما يميّز بيسوا أنّه: «كان تقريباً إنسانويّاً كبيراً»، وأنّه من نسج معاناة كبيرة وشمت طفولته بموت أبيه، وأخيه ذي السنة الواحدة، ومرض جدته ديونيسيا الذي أوصلها إلى مستشفى الأمراض العصبيّة.يعلن بيسوا أنّ الكتابة نتيجة لعجز الحياة ونقصها: «ليس الأدب سوى اعتراف بأنّ الحياة لم تعد تكفي»، وأنّ الفنون على اختلافها تنتمي إلى ماهيّة الأدب إذ إنّها من إنتاج الصمت، غير أنّ هذا الصمت تعبيري بامتياز: «ثمّة طريقتان للحديث: الكلام والصمت. من هنا، إنّ الفنون التي ليست أدباً، ما هي سوى انعكاس لهذا الصمت التعبيري». وعليه، تتحوّل الأحاسيس حقيقة تحتكر الحقائق بوحدتها وإذا كان لا بدّ من وظيفة للفنّ فهي مدّ هذه الأحاسيس على بساط الوعي: «الحقيقة الوحيدة في الحياة هي الأحاسيس. أمّا الحقيقة الوحيدة في الفنّ فهي: وعي هذه الأحاسيس».ويصنّف بيسوا حملة الأقلام في ساحة القصيدة، فمنهم من هو الشاعر الممتلئ حين تكون قصيدته مزهريّة لورود أحاسيسه: «الشاعر الأسمى هو من يعبّر عن الذي يحسّ به حقّاً». ومنهم من هو الشاعر الذي يجتاز نصف الطريق إلى سموّ الكلمة حين يكون شعوره تحت سيطرة إرادته وتخطيطه: «الشاعر المتوسّط، هو الذي يقرّر ما سيشعر به»، ومنهم من هو الشُّويعر حين يضع إيمانه تحت رحمة إحساسه قبل أن يصل: «أمّا الشّويعر فهو الذي يؤمن بما سيحسّه».وينشد بيسوا تعدّدية خاصّة له، فهو يريد أن يضمّ بوجوده الواحد: «دولة وسياسة وأحزاباً وثورات»، إلى أن يصير شعباً في فرد. وإذا كان له أن يتعدّل، فيرغب بلا تردّد في أن يكون: «رجلاً وامرأة في نزهة، يتنزّهان على ضفّة النهر». ولتعدّدية بيسوا ما يكفي من العمق، وقد لا تُفَسَّر إلاّ بلغة الأحاسيس الباطنيّة، لأنّه يمدّ قلمه إلى أعماق روحه ويهجّئ نصوصاً مكتوبة بلا لغة إلى حدّ يجعله هو نفسه غير قادر على إعطاء الوضوح والدقّة لكلمته: «روحي أوركسترا سرّيّة؛ أجهل أي آلات سأنقر، وأي منها ستصرّ داخلي. لا أعرف نفسي إلاّ بصفتي سيمفونيّة».ويبدو بيسوا محاصراً بألم الوقت، يحدّق إلى أيّام تمضي مكتفية بما فيها من فراغ، معتمراً ضجره على كثير من الغضب: «أمضيت الشهور الأخيرة، وأنا أمضي الشهور الأخيرة. لا يوجد هنا إلا حائط الضجر الذي تعلوه كسور الغضب الكبيرة». وقد يكون غضب الشاعر عائداً إلى أنّ عينيه لم تريا من على شرفة الأيّام حصاناً أنيقاً يمتطيه الغد، كأنّ الزمن أسير جدران الحاضر حيث لا شيء إلاّ النموّ المتواصل لكائن مخيف: اسمه القلق: «أنا في واحد من هذه الأيّام التي لم أعرف فيها أيّ مستقبل. لا شيء سوى حاضر ثابت محاط بجدار من القلق».عبثية يبدو بيسوا على علاقة طيبة مع العبثية الطاعنة في السواد، ليرى نفسه فراشة ترتدي جناحَي كآبة وتدور حول قنديل الفراغ حيث لا شيء إلاّ صقيع العدم المثقوب: «روحي دوّامة سوداء، دوار سحيق حول الفراغ، تطلّع محيط بدون قرار إلى ثقب في العدم».ويحترف الشاعر الانتماء إلى الشكل الدائري المثقَل بدّوْخة الدوران بين الجسد والعالم والنفس: «عبر الدوار الجسدي، يدور العالم الخارجي حولنا، في الدوار النفسي هو عالمنا الداخلي الذي يدور»... وتمرّ الحياة على مرمى سحابة حزن من بيسوا المتفرِّغ ليكون راعياً في بريّة الفكر المتألّم يسوق قطعان أفكاره الطالعة طازجة من القلب باعتبار الفكرة لن تكون إلاّ شعوراً: «أنا حارس قطيع. / القطيع أفكاري، وأفكاري هي كلّ أحاسيسي».ويدلّ بيسوا بالإصبع على اختلاف الإنسان كياناً ورغبة، ما يعني أنّ الخَدَر مختلف كما هو الوعي مختلف، وأحياناً نصل إلى خَدَرنا من كحول ليست صناعة أرضيّة مجبولة بعرق البشر إنّما هي من صناعة الوجود بحدّ ذاته: «لكلّ شخص كحوله الخاصّة. فالوجود يزوّدني بما يكفي من الكحول». وحين يحضر الاختلاف يحضر الوجود، كأنّ المعادلة لا تقبل الشكّ: أنا مختلف إذاً أنا موجود «يختلف الجميع عن بعضهم البعض. لذلك كلّ واحد منّا موجود».إلاّ أنّ الاختلاف، على جماله وفرادته، تحصده الرتابة بمنجلها الصامت مع مرور الوقت، ولو كان من شخصيّة المدن الجميلة: «لشبونة، بمنازلها المختلفة الألوان.../ لكثرة ما تكون مختلفة، يصبح الأمر رتيباً».ويفرِّق بيسوا بين نوعين من الحياة: حياة هي ابنة خيال الطفولة، وتبقى قائمة على امتداد جغرافية الروح والذاكرة، وأخرى موشومة بالخطيئة نعيشها مع الآخرين إلى أن ترتاح وما بقي لها من أحلام في ظلمة الكفن: «حياة حقيقيّة، وهي تلك التي نحلم بها في طفولتنا، تلك التي نستمرّ بالحلم بها كباراً.../ أمّا الحياة الخاطئة فهي تلك التي نتقاسمها مع الآخرين... إنّها الحياة التي ننهيها في الكفن».سواد المحبرةحين يبحث بيسوا عن ذاته يطلع من جسده كما المارد من قمقم ويرى نفسه مسافة داخلية تملأ الفراغ بينه وبين نفسه: «أنا هذه المسافة بيني وبين نفسي». ولأنّه بين حين وآخر يجهل نفسه يلبس أقنعة متعدّدة ويمشي طويلاً في شوارع ذاته المتداخلة بهدف البقاء على ضفّة الحياة: «يحدث لي أحياناً أن لا أعرف نفسي: وهذا أمر مألوف عند الذين يعرفون أنفسهم. أتابع في داخلي حفلات التنكّر المتعدّدة التي تجعلني على قيد الحياة».ويصرّ بيسوا على الحياة، رغم السواد المستوطن محبرته، فالحياة بالنسبة إليه شرّ غير أنّه يستحق المرور بذائقتنا: «الحياة شرّ جدير بأن نتذوّقه»، وإذا كان لا بدّ من الأمل فعلينا أن نعرف أنّه لغز الألغاز: «الألغاز الحقيقيّة هي ألغاز الأمل»... ولا بدّ لنا من الاتجاه دائماً نحو هزائم ذات معنى، لأنّ الهزيمة في ظلال الورد أبهى من الانتصار على رمل الصحراء التي لا تقايَض على اتّساعها بوردة: «أفضّل الهزيمة التي تعترف بجمال الورود على الانتصار في صحراء».في «لستُ ذا شأن» نقل اسكندر حبش فرناندو بيسوا إلى ضمير اللغة العربية دون أن يخسر الكثير من نسقه الشعري رغم أن الترجمة بالنسبة إلى الشعر هي الشرّ الذي لا بدّ منه دائماً.