"شوق الدراويش" رواية وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر، لكنها لم تحصد الجائزة التي ذهبت إلى رواية "الطلياني"، التي لم أقرأها بعد حتى أعرف أيهما الأفضل والأحق بالجائزة، لكن "شوق الدراويش" قد سبق أن فازت بجائزة نجيب محفوظ، وهي جائزة مميزة بلجان تحكيم قديرة وقادرة على الفرز الحقيقي البعيد عن العلاقات والمجاملات واتفاقات المصالح، وقد جاء في أسباب فوزها ما يلي: "الرواية تتألق في سردها لعالم الحب والاستبداد والعبودية والثورة المهدية في السودان نهاية القرن التاسع عشر، الرواية لوحة متعددة الألوان واسعة النطاق من الشخصيات والأحداث في غنى ما بين السرد والشعر والحوار والمنولوج والرسائل والمذكرات والأغاني والحكايات الشعبية والوثائق التاريخية والترانيم الصوفية والابتهالات الكنسية وآيات القرآن والإنجيل والتوراة".

Ad

كل ما جاء في بيان لجنة التحكيم تستحقه هذه الرواية الفذة للكاتب السوداني "حمور زيادة"، الذي أدهشني بكتابته ذات المستوى العالمي الذي يضاهي مستوى الروايات العالمية العظيمة، وهي تصلح بجدارة للإنتاج السينمائي الضخم بهذه العوالم المتعددة التي قدمت إلينا صورة بانورامية ثلاثية الأبعاد للسودان الذي لا نعرفه ونجهل تاريخه وعاداته وتقاليده واعتقاداته وأصواته وناسه، كتابة غاصت في ماضي السودان وكشفت عن كنوزه الخفية عنا.

حمور زيادة راوٍ متمكن من خلق عوالم روايته واللعب بأوراقها بمقدرة عجيبة، يخلط أوراق حياتها ثم يعيد فرطها في مشاهد متقطعة أزمانها وأمكنتها ومصائرها، لكنه في النهاية يعيد ضمها وربط تشظيها في عقد الرواية، لتصل إلى القارئ سيرتها من بعد تشتتها وتشردها الطويل عبر الفصول والمشاهد المتباعدة والمتداخلة في صيرورتها الروائية.

رواية ثرية بعوالمها المثخنة بالحروب والمجاعات والقتل والموت المجاني، وهي صالحة لزمننا هذا، كأنها كُتبت له فهي تصف حال الفتنة والعنف واستخدام الدين كسلاح ووسيلة لاستغلال الناس ودفعهم للتقاتل بعضهم ضد بعض في حروب تشبه حرب داعش وجبهة النصرة وغيرهما من إرهابيي عصرنا الحالي، فلا يختلف حكم الإمام محمد أحمد المهدي الذي ادعى أنه المهدي المرسل من الله ليهدي الناس إلى الإسلام ويحكم باسم الإسلام وينهي مظالم حكم الدولة العثمانية والإنكليز والمصريين الذين كانوا يحكمون السودان في ذاك الوقت، عن حكم أبو بكر البغدادي الذي نشر حكمه بقطع رؤوس الناس على يد دواعشه، التاريخ يعيد نفسه والظلم تتكرر صوره عبر التاريخ العربي، "فها هم المهاجرون يخرجون لمهدي الله بالمئات، تلقي إليه الفجاج جوهرها، ما بقي في البيوت إلا متشكك طمس الله عن قلبه النور أو متردد مثله يخشى أن تكون فتنة، هذا وقد أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأن من شك في مهديتك فقد كفر بالله ورسوله".

الرواية تعج بالمشاهد الدرامية العنيفة المذهلة التي تحبس الأنفاس وتهز الوجدان عبر قصة حب البربري السوداني بخيت منديل للمبشرة المسيحية الجميلة "ثيدورا" أو حواء كما سماها سيدها حين اشتراها والذي سيختنها بسبب رفضها لمعاشرته، مشهد الختان هذا من أقسى مشاهد الرواية وأوجعها كما هو مشهد موتها الرهيب، حبه لها قاده لحتفه ونهاية حياته، وحبها له لم يستطع أن يرفع قيمته في عينها فهي تراه عبداً قبيحاً ليس في مستوى حبها، وحينما لا يملأ المحب عين حبيبه لا يلتحم الحب باكتماله، فهو" يدللها، من اليوم الأول، كبحر الإسكندرية وهي تخيفه كالنهر، يوجعه في النهار صمتها، يؤلمه في الليل اشتياقها. يتبدل كوجه السماء مع زوال الشمس يخفت مرحهحلاوة روحه تبهت حتى غدا شفافا".

ويكتب بعد فراقها "يظن المدينة نائحة والشوارع ترتدي الحدادكيف مازال النيل في مكانه؟ لم تهو القبة ولا طار مسجد الصفيح في الهواءما تخيل أم درمان بدونها ما عرف أم درمان بدونها لكنه عرف أن الحزن حزنه أدرك كم هو وحيد في هذا العالم ربما هناك باكون لكنه الحزينربما هناك آخرون لكنه وحيد".

آخ هذه رواية موجعة تهز القلب من جذره حتى وأنا أكتب هذا المقال مازلت أشعر بمتعة شجن تهز روحي كأنها التصقت بنسيجها، فهذه الرواية من العلامات في تاريخ الرواية العربية ولن تُنسى، فالعالم كله انضوى تحت جناحها من صراعاته المتمثلة في"الدم باسم الله - الدم لأجل الله - الدم يا مهدي الله" إلى أسمى آيات العشق وتفانيه.