الحملة على الحياد الإعلامي
يجب أن يدرك الصحافيون والإعلاميون العرب أن الحقائق لا تتطلب انحيازاً، بل إن الانحياز إليها قد يفقدها مصداقيتها، فضلاً عن فقدان من يدافع عنها صفة الحياد، التي هي أهم أسلحة الدفاع عن أي قضية.
سيمكن لأي متابع لما تنشره الصحف وتبثه الفضائيات في عالمنا العربي ملاحظة أن هناك حملة منهجية تستهدف قيمة "الحياد" في العمل الإعلامي.إن الجدل يتجدد باستمرار في المجال الإعلامي العربي حول معنى "الحياد"، وما إذا كان "خرافة" أو "قيمة تستحق أن نعمل من أجلها".ويتسع هذا الجدل ليتخذ شكلاً صدامياً أحياناً، إلى حد يعتبر البعض فيه أن "الحياد خيانة"، بينما يرى آخرون أن التخلي عن هذه القيمة المهنية يمكن أن يحوّل الأخبار إلى مجموعة من التشنجات والتصورات الذهنية المتصادمة والمتحاربة.لقد كانت القضية الفلسطينية، والعدوان الإسرائيلي على دول عربية عدة، سبباً رئيساً في زعزعة مكانة "قيمة الحياد" في العمل الصحفي والإعلامي؛ إذ كان من الصعب على إعلاميين كثيرين أن يتبنوا مقاربة حيادية في تغطياتهم حين يتصل الأمر باحتلال دولة فلسطين وتشريد أهلها، أو ارتكاب جرائم إبادة بحق مواطنين عرب، أو اجتياح الأراضي والعواصم العربية، أو حرق الأطفال في "قانا"، وقتل آلاف المواطنين في غزة وغيرها.وبسبب وقوع معظم المنظومات الإعلامية العربية على مدى العقود الأخيرة تحت هيمنة السلطة التنفيذية، فقد كانت قيمة "الحياد" صعبة التحقق، ومستحيلة أحياناً، بالنظر إلى أن معظم السلطات العربية كانت تسخر وسائل الإعلام العامة والخاصة كأبواق دعاية.ولأن المهنيين والمواطنين العرب أدركوا، بشكل أو بآخر، أن عدداً من وسائل الإعلام الغربية الكبرى أفرط في تغطيات إعلامية منحازة، فقد تم الإغراء بقيمة "الحياد"، باعتبار أن دعاتها والمروجين لها في الغرب أخفقوا في الالتزام بها أحياناً كثيرة.ومن بين الأسباب التي قلصت القدرة على فهم قيمة "الحياد" في العمل الإعلامي، فضلاً عن القدرة على تفعيلها والالتزام بها، التراجع المهني الواضح لدى قطاعات من الإعلاميين العرب، وغياب التنظيم المؤسسي المتكامل في وسائل الإعلام العربية، والنقص الحاد في المدونات، والأدلة الإرشادية، وعمليات التدريب، وعدم وجود آليات لضبط الأداء الصحافي والإعلامي وتقويمه بشكل كافٍ وفعال.ورغم تفهم تلك الأسباب السابق ذكرها، فإن لدى الإعلاميين العرب فرصة نادرة لتعزيز أدائهم عبر إعادة الاعتبار لقيمة "الحياد" في العمل الصحافي والإعلامي، واعتماد معالجات مهنية تحترم تلك القيمة وتسعى إلى تفعيلها.يجب أن يدرك الصحافيون والإعلاميون العرب أن الحقائق لا تتطلب انحيازاً، بل إن الانحياز إليها قد يفقدها مصداقيتها، فضلاً عن فقدان من يدافع عنها صفة الحياد، التي هي أهم أسلحة الدفاع عن أي قضية.فالحياد في العمل الإعلامي الإخباري هو وقوف الصحافي أو الوسيلة الإعلامية على مسافة متساوية من جميع أطراف الحدث، مع إتاحة الفرص المناسبة لتلك الأطراف، أو من يمثلها، للتعبير عن مواقفها، دون التورط بتأييد أو معارضة أي من تلك المواقف. والحياد يعد خطاً فاصلاً بين تقديم المعلومة المجردة وبين التحريض والحض على توجه سياسي أو اجتماعي معين.وعند إعداد التقارير الصحافية أو تقديم النشرات وبرامج الأحداث الجارية، يجب أن يتم التأكد من أن الصحافي يحاول أن يفصل بين مشاعره وعواطفه وتوجهاته وبين مهنيته.من حق الصحافي أن يشعر بكثير من التعاطف مع ضحية في جريمة ما، وأن يشعر أيضاً بكثير من التحامل على قاتل مفترض أو مشتبه فيه، لكن الحياد والمهنية يقتضيان ألا يظهر هذا التعاطف عند تقديم التقرير الصحافي، وكلما كان الصحافي محايداً ومهنياً كانت هناك فرصة لإنجاز تقرير مهني جيد، وأيضاً لظهور الحقيقة واستخلاص العبر.يبرر الكثير من الصحافيين انحيازهم بأنهم "وطنيون" يدافعون عن الوطن، أو "قوميون" ينتصرون للعروبة، أو أنهم "مؤمنون" أصح ديناً من الآخرين، أو أنهم "يدافعون عن الحقيقة"، أو "ينحازون للمواطنين أو المهمشين أو الضعفاء أو المظلومين"... مرة أخرى يجب التذكير بأن "المواقف العادلة لا تتطلب انحيازاً، ولكن تتطلب مهنية لإبرازها وتوضيحها".علينا أن ندرك أنه لا يصح التذرع بقيم "قابلة للتشارك" (مثل الوطنية أو القومية أو الإيمان أو الحقيقة) عند ممارسة الانحياز في التغطية الخبرية.يمكن للصحافي الذي يقوم بتغطية الأخبار أن يعبر عن انحيازه في مجال الرأي (المقال، والعمود الصحافي، والكاريكاتير، والتحدث إلى الجمهور عبر وسائل الإعلام)، باعتبار أن ما يقوله رأي، لا أخبار أو حقائق... لكن الأخبار لا يجب أن تتضمن آراء المحرر أو المذيع الشخصية.يمكن لأي صحافي أو إعلامي أن يعلن عبر وسيلة الإعلام التي يعمل بها أنه "منحاز إلى تصوُّر ما، أو شخص ما، وأنه يقدم أخباراً بشكل يخدم هذا الانحياز"، وعندها يمكن تفهم ما يفعله، واحترامه.ففضائية لأحد الأندية، أو صحيفة لأحد الأحزاب، ستكون منحازة بالضرورة، وعندها سيتزود الجمهور بالأخبار منها باعتبارها "أخباراً مخلوطة بهذا الانحياز وخاضعة له"، وسيكون "التعدد" وسيلة لتقويم هذا الانحياز.لكن هؤلاء الذين يعملون في "الإعلام العام"، أو "يدّعون الحياد والمهنية" في "بيانات المهمة"، أو الأدلة التحريرية، أو الإعلانات الترويجية، مطالبون بالتفرقة بين الرأي والخبر، واتخاذ مواقف محايدة عند تغطية الأخبار.الحياد ليس خرافة؛ لأنه موجود في كثير من الممارسات الإعلامية، وليس هدفاً يمكن تحقيقه بالكامل، لأنه إحدى القيم الأساسية ضمن "قيم العمل الإعلامي الرشيد"، ووظيفة القيمة أن تؤطر الأداء، وترشّد الممارسة، وتعطينا معياراً للقياس والمحاسبة، وليس أن تتجسد كاملة في الواقع.السؤال يجب ألا يكون: "هل هناك حياد بنسبة مئة في المئة؟"، ولكن يجب أن يكون: "هل الحياد قيمة تستحق أن نعمل من أجلها؟"، و"هل هناك وسائل يمكن من خلالها أن نقترب من تحقيق الحياد؟".الحياد في العمل الإعلامي مطلوب مِن كل مَن يعمل في الإعلام العام، ومطلوب أيضاً من كل من يدّعيه لنفسه، ومطلوب أيضاً من كل من يقدم الأخبار ويقول إنه مهني وموضوعي، لأن الموضوعية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الحياد.* كاتب مصري