عندما سقط الجدار
خلال الخمسينيات، تفاعل الرئيس الأميركي أيزنهاور ووزير خارجيته دالاس مع المعسكر الشرقي ومحاولاته للانتشار أيديولوجياً، فتم تحويل مسار السياسة الخارجية الأميركية لدعم أوروبا الغربية، ولم تكن واشنطن متحمسة للدبلوماسية الناعمة أو الأدوات الاقتصادية أو حتى خطة مارشال آنذاك، بل لسياسة الانتقام الشامل أو سياسة حافة الهاوية.
احتفلت ألمانيا، قبل عدة أيام، بمرور ربع قرن على سقوط جدار برلين وانطلقت الخطابات الحماسية مشيرة إلى أهمية انهيار الحائط الذي رمَز إلى العزلة والقمع والحرب الأيديولوجية والحصار والهيمنة السوفياتية دون إطلاق رصاصة واحدة، ولو سألتَ أخي القاري باحثي العلاقات الدولية أثناء الحرب الباردة عنها لغمَرتهم الإشادة بالفكر الليبرالي وتطلعاتهم إلى السلام والازدهار مستبعدين المنظور الواقعي المتشائم، ولقالوا لك إن علم العلاقات الدولية وسيلة لتحديد مناطق الخطر ومواضع الضعف، وأن الثنائية القطبية مستمرة دون حروب تذكر، اللهم إلا الحروب بالوكالة، فكيف تطورت الأحداث؟لنبتدئ بفترة الأربعينيات، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومع تطبيق خطة مارشال الاقتصادية وإنشاء حلف الناتو الأمني قرأت موسكو الأحداث بعين الشك واقتنعت بأنها بداية لحرمانها من ثمار انتصارها على ألمانيا، أما الغرب المتمثل بالدول المنتصرة إلى جانب الولايات المتحدة، فقد قرأ القمع السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا عام 48 وتشديد الحصار على مدينة برلين في ما بعد، على أنهما عملان يستحقان ردود الفعل، ومنها إنشاء جسر جوي لإنقاذ الكتلة الغربية وإمدادها بالمعونات اللازمة، فكانت بمنزلة المواجهة الأولى منذ بداية الحرب الباردة، وأسفرت ردود الفعل عن أزمات في مناطق متفرقة، أما في الولايات المتحدة فتشرشل المعارض كان قد زار ميسوري عام 46 وأعلن أن الغرب أطلق على الكتلة الشرقية دول الستار الحديدي، كما حذّر الرئيس ترومان أيضاً من الدول التي وقعت تحت القبضة الحديدية في عزلة عن العالم الخارجي، وكما علقت الباحثة أوريجون، كان الوضع مشتعلاً بأزمة "سوء الفهم".
أما فترة الخمسينيات، فقد تفاعل الرئيس الأميركي أيزنهاور ووزير خارجيته دالاس مع المعسكر الشرقي ومحاولاته للانتشار أيديولوجياً، فتم تحويل مسار السياسة الخارجية الأميركية لدعم أوروبا الغربية، ولم تكن واشنطن متحمسة للدبلوماسية الناعمة أو الأدوات الاقتصادية أو حتى خطة مارشال آنذاك، إنما لسياسة الانتقام الشامل أو سياسة حافة الهاوية، كما تسعى إلى وقف أي توسع سوفياتي تجاه الدول الغربية حتى انتهت بإعلان مبدأ أيزنهاور لمساعدة دول الشرق الأوسط ضد أي عدوان من دول تحكمها الشيوعية بناء على طلب الدولة.وفي الستينيات، تصاعدت تداعيات حصار برلين وتم إنشاء الجدار وإغلاق الاتصال بالعالم الغربي، فتجاهل الغرب الربيع التشيكي رغم حاجته إلى الدعم والمسمى بـ"ربيع براغ"، واحتضن العالم يوغوسلافيا ورغبتها في الحياد، فتصدرت صورالرئيس اليوغوسلافي تيتو الصفحات الأولى من صحف دول الخليج، والتي اختارت بذكاء عدم الانحيازالسياسي، كما اختارت الشراكة الاقتصادية مع المعسكر الغربي، فهربت يوغوسلافيا من هيمنة الاتحاد السوفياتي، ولعلها هي التي مهدت الطريق أمام الدول الراغبة في الاعتدال، وتوّجتها جهود غورباتشوف خلال الثمانينيات عبر الإصلاح (البروستريكا)، والذي بدأ يدق إسفيناً لهدم الجدار الحديدي بعد سنوات من القمع حتى انهار معلناً نهاية الحرب الباردة، وأخيراً، وليس آخراً، وقَف قادة الدول متحدثين عن انتهاء ثقافة العزلة الإجبارية والجدار، فهل تطرق أي منهم إلى الجدارالعازل الذي قطَّع أوصال فلسطين؟! وللحديث بقية.