قبل أسابيع، وفي أعقاب القرار الغريب الخاص برخص قيادة السيارات للوافدين، نشرت مقالة بالعنوان نفسه، انتقدتُ فيها ذلك القرار، وطالبت جهات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان وفي مجلس الأمة كذلك بالتصدي لتلك القرارات وتصحيحها وتنقيتها من البنود المتعسفة، لكن المؤسف أنه لم تتجاوب أي جهة مع تلك الدعوة، ما يثبت أن معظم تلك الجهات هي واجهات لـ "الرزة" أو العمل السياسي المغلف بادعاءات حول حقوق الإنسان.
بعد نشر تلك المقالة، تلقيت سيلاً من الاتصالات عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي، معظمها من ناس لا أعرفهم، كان أحدها من وافد ذكر أن ابنه المهندس وخريج جامعة غربية عريقة، التقى فتاة كويتية كانت زميلة سابقة له في دورة مهنية في أحد المقاهي، فألقى عليها السلام، وتحدث معها ثم غادر، ليوقفه بعد ذلك شخص بالزي الوطني الكويتي، ويخبره بأن هناك قراراً من وزارة الداخلية بإبعاد الوافد الذي "يغازل"، وحذّره من تكرار ذلك! أنا فعلياً صُدمت بعد أن قرأت هذه الواقعة، ولكن صدمتي لم تطُل عندما نشرت الصحافة وعلمت لاحقاً أن الإبعاد يطول كذلك أي وافد يقيم "باربكيو"، أو يحضر حفلة ربما تقوم فيها واحدة من معارفه بالرقص، فيعتبرها أحد مسؤولي وزارة الداخلية "حفلة مختلطة"، ويبعد من الكويت كل الحاضرين فيها من الوافدين! لم أستطع أن أستوعب هذه النوعية من القرارات في دولة دستورية مدنية مثل الكويت، وكذلك كلام مسؤول في "الداخلية" عن أن دول الخليج "تحلب الوافدين حلباً"! أي إن الوافدين لدينا هم مشروع قادم لـ"الحَلب"! وهو كلام غريب لا يراعي حساسية علاقات الكويت ومصالحها. فهل يجوز حرمان مسنّ من الالتحاق بابنته أو ابنه في البلد، رغم إمكان فرض تأمين صحي بقيمة شاملة، حتى لا نكلف الدولة تكاليف كبيرة دون استخدام أسلوب المنع والحرمان. نعم، قد تكون لدى البعض مخاوف وحساسية من تنامي عدد الوافدين في البلد، ووصولهم إلى تعداد الـ 3 ملايين نسمة، ولكن نحن من استقدمهم، والدولة هي التي منحتهم الإقامة الشرعية بموجب قوانينها وإجراءاتها الرسمية، ولذلك وفقاً للشرع والقانون الدولي والضمير الإنساني، نحن مطالبون بأن نراعي حاجاتهم المعيشية والإنسانية الطبيعية. فهل من المعقول أن يتم إبعاد وافد لمجرد إبداء إعجابه بسيدة ربما بقصد شريف للارتباط بها؟، واستحداثنا آلية ملاحقة حتى عواطف البشر، أو لفقدان وافد أعصابه وانخراطه في مشاجرة للدفاع عن نفسه أو عرضه، أو لقيامه بحفلة شواء في مكان عام، أو لوجود فتاة وافدة في مكان يعتبره مسؤول أمني مكاناً مشبوهاً، ويهدد بإبعادها فيصاب والدها بجلطة تشل جسده وتُفقد الأسرة مُعيلها؟.. فأين الرحمة والستر المطلوبان منا، كما نرجوهما لأبنائنا وبناتنا الكويتيين؟! لدينا 3 ملايين وافد (إنسان) وليسوا ملائكة، ولن نجعلهم معصومين، ربما لبعضهم زلات أو أخطاء لا تصل إلى حد الجرائم، فبأي حق نهدم حياتهم ومستقبل من يعيشون على رزقهم في بلدانهم بقرار الإبعاد؟ وهل يقبل المسؤولون في الدولة أن يعامَل الكويتيون في الخارج بهذا التعسف؟ فهناك آلاف الكويتيين الذين يزورون مصر والمغرب ولبنان... إلخ، ولبعضهم زلات في قضايا أخلاقية ومالية وتجارية، فهل نقبل التشهير بهم وتسفيرهم مكبلي الأيدي من مراكز إبعاد جماعية؟، كما أن هناك آلاف الطلبة الكويتيين في كثير من الدول العربية، فماذا لو تعرضوا لعمليات انتقام أو أصبحوا مشروعاً لـ "الحلب" والاستقصاد من جهات أمنية وعدلية هناك؟! بلا شك أن الإجراءات التعسفية التي تستهدف الوافدين أخيراً هي خارجة عن المنطق والمبادئ الإنسانية، وتمثّل شطحات من قيادات أمنية جديدة محترمة، ولكنها تريد أن تثبت وجودها، وهي لا تعلم أن التعامل مع الجاليات والتصريحات التي تخصها يمسّان علاقات الكويت الخارجية ومصالح الكويتيين، والأهم من كل ذلك إنسانيتنا وضمائرنا ككويتيين. ورغم الحاجة إلى الحزم لإعادة الانضباط والأمن للبلد، فإن ذلك لا يكون بترويع المقيمين بيننا ونزع الرحمة وفريضة الستر من وجداننا، ووضعهم تحت التهديد المستمر بفقدان رزقهم وأمانهم الذاتي، لذا أتمنى أن تراجع الحكومة القرارات الأخيرة الخاصة بالوافدين وتعيد السكينة والاستقرار لهم.
أخر كلام
وافدون... أم عبيد... يا حكومة؟! (2)
30-12-2014