عندما أتحدث مع المستثمرين، أجد أنهم يتفقون إجمالا على أربعة مفاهيم سائدة، لكنني أعتقد أنها ربما تكون غير صحيحة. ولا بد أن أعترف أولاً بأنني كنت في فترات مختلفة ممن يصدّقون كل واحدة من هذه الأفكار، وهي:

Ad

1. انتهاء عصر تفرد الاقتصاد الأميركي.

2. ترجيح بقاء أسعار النفط منخفضة لفترة طويلة.

3. احتمال انكماش الاقتصاد الأوروبي بسبب تباطؤ النمو.

4. عدم فعالية السياسات الاقتصادية لرئيس الوزراء الياباني شينزو آبي ، وأن اليابان مهددة بالركود من جديد.

لذلك قررت استقصاء كل من هذه الأفكار لمعرفة ما إذا كانت واقعية أم أنها مجرد أساطير اكتسبت المصداقية بطريقة أو بأخرى بين المستثمرين، دون أسس حقيقية تستند إليها.

1. التفرد الاقتصادي الأميركي:

يعتقد العديد من المراقبين والمحللين أن الولايات المتحدة، من المنظور الاقتصادي، لم تعد ذلك البلد الفريد كما كانت في نهاية الحرب العالمية الثانية. وتوجد بعض الأسباب الوجيهة لهذا الاعتقاد، كانخفاض حصتها من إجمالي الناتج العالمي، وصعود الاقتصادات الناشئة، والأداء المخيب للآمال للمدارس العامة الأميركية.

لكن نظرة إلى أداء سوق الأسهم الأميركية تظهر بالتأكيد أن الشركات الأميركية تملك أفضلية تنافسية. فمنذ ربيع عام 2009، ارتفعت الأسواق الأميركية بأكثر من 200 في المئة، مقارنة مع ارتفاعات بلغت 108 في المئة لمنطقة اليورو، و118 في المئة في اليابان و 111 في المئة للأسواق الناشئة، وفقاً لدراسة غولدمان ساكس.

وقد تفوق أداء الدولار الأميركي على جميع العملات الرئيسية باستثناء الفرنك السويسري. وتشير الدراسة ذاتها إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الأميركي اليوم هو أكبر بنسبة 12.9 في المئة مما كان عليه عام 2009، مقابل زيادةٍ بلغت 3.8 في المئة لمنطقة اليورو و 8.9 في المئة لليابان. وتحقق هذا التحسن الاقتصادي على الرغم من انخفاض الإنفاق الحكومي كنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي. كما انخفض معدل البطالة بشكل كبير. وكانت الطاقة حافزاً مهماً للاقتصاد، فقد ارتفعت الاحتياطيات المؤكدة من النفط والغاز بنسبة 55 في المئة و 35 في المئة على التوالي، وساهمت الولايات المتحدة وحدها بحصة 80 في المئة من الزيادة العالمية في إجمالي إنتاج الطاقة. وربما يكون الأهم من ذلك أن وكالة الطاقة الدولية تتوقع أن تصبح الولايات المتحدة أكبر منتجٍ للنفط بحلول عام 2020.

وبالعودة إلى أسواق الأسهم، تمثل قيمة الأسهم المتداولة في الولايات المتحدة نحو 52 في المئة من مجمل قيمة الأسهم المتداولة في العالم. ومنذ الركود الأخير، كان النمو في ربحية السهم أفضل في الولايات المتحدة من معظم البلدان الأخرى، مع ارتفاع العائد على حقوق المساهمين وانخفاض أعباء الديون. كما تملك الولايات المتحدة بعض المزايا التنافسية في مجال التصنيع. وحدها الهند والصين وتايلاند والفلبين تتفوق على الولايات المتحدة من حيث كفاءة تكاليف وحدة العمالة، ووحدها النرويج تتفوق عليها من حيث كفاءة تكاليف الطاقة الكهربائية. وبالإضافة إلى ذلك، استفادت الولايات المتحدة من عوامل أخرى، فالهجرة إليها من العوامل الإيجابية المهمة، كما كانت السياسات النقدية والمالية فعالة في معالجة الركود الأخير عامي 2008 و 2009. وعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة تواجه العديد من المشاكل الاجتماعية ومشاكل السياسات الحكومية التي يرجح استمرارها على المدى المنظور، فليس هناك من شك بأن أداء الاقتصاد منذ ذلك «الركود الكبير» كان قوياً ولافتاً بالمقارنة مع الدول الصناعية الأخرى.

2. النفط:

الرأي السائد الآن هو أن أسعار النفط ستبقى منخفضة لفترة طويلة بسبب النمو الاقتصادي البطيء في جميع أنحاء العالم وزيادة الإنتاج. لكن عدد الآبار والمنصات العاملة انخفض من 1900 إلى 1300 منصة عما كان عليه عندما بلغ سعر النفط ذروته. ويشير عدد الآبار المنخفض عادةً إلى إمكانية هبوط الإنتاج في المستقبل، عندما تقترب الآبار العاملة من النفاد. وبعد الانخفاض الأول لسعر النفط، يتعرض السعر عادة لاختبار جدي عندما تمتلئ مرافق التخزين «كما يحدث الآن» مع استمرار الإنتاج، إذ لا بد من بيع النفط الذي يتم إنتاجه بطريقة أو بأخرى. وإذا تكرر هذا النموذج الآن، فمن المفترض أن تصل أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها قريباً قبل أن تبدأ بالارتداد. ولعل أوضح الأسباب التي ترجح الانتعاش السريع في أسعار النفط هي الزيادة المستمرة في الطلب من الأسواق الناشئة، خصوصاً الصين والهند والشرق الأوسط، فضلاً عن نمو الاقتصادات المتقدمة، وإن كان نمواً متواضعاً.

ومع ذلك، يرى البعض أن التاريخ لن يعيد ذاته هذه المرة، لأن إنتاج النفط من الصخر الزيتي قد غير مشهد هذه الصناعة وتوقعاتها. فبمجرد عودة سعر النفط للصعود، سيبدأ إنتاج المزيد من النفط الصخري وطرحه في السوق، ما يكبح ارتفاع الأسعار. وبعدما كانت تكلفة استخراج النفط من الصخر الزيتي تقدر بنحو 80 دولاراً للبرميل قبل ثلاث سنوات، فقد أدت التطورات التقنية إلى خفض التكاليف لتصل الآن إلى متوسط يتراوح بين 50 و 60 دولاراً للبرميل. وبقي الإنتاج العالمي للنفط من دول أوبك وخارج أوبك «غير الولايات المتحدة» ثابتاً تقريباً منذ عام 2004. وفي الوقت الحاضر يتجاوز إنتاج «أوبك» حصتها المقررة، ما يشير إلى بعض الانخفاض في الإنتاج من الدول خارج منظمة «أوبك». في المقابل، كان العامل الأكثر تأرجحاً هو إنتاج النفط من الصخر الزيتي في الولايات المتحدة، والذي ارتفع بشكل حاد منذ عام 2010، لكنه على الأرجح سيبقى متواضعاً حتى صعود أسعار النفط من جديد. ومن العوامل التي قد تمنع أسعار النفط من الارتفاع رفع العقوبات عن إيران بعد الاتفاق على معالجة ملفها النووي، ما قد يسبب زيادة في واردات النفط من هذا البلد. كما أن الارتفاع الحاد في الحيازات الاستثمارية الطويلة في صناديق السلع المضاربة يدعم الآراء التي تستبعد صعود الأسعار على المدى القريب. آخر مرة حدث فيها ذلك عندما كان سعر النفط 107 دولارات للبرميل. ومع كل ذلك

ما زلت أتوقع شخصياً صعود أسعار النفط قبل نهاية العام.

3. أوروبا:

في أوروبا، من المفترض أن يكون برنامج التسهيل النقدي الجديد للبنك المركزي الأوروبي بداية لتحسن النمو، لكن بداية العام شهدت مشكلات في اليونان وروسيا هددت بدفع أوروبا كلها إلى حالة من الركود، وربما الانكماش. كنت متشككاً في فعالية التسهيلات النقدية للبنك المركزي الأوروبي في تغيير مسار الأمور، لكن بعد مرور ثلاثة أشهر تحسنت التوقعات والمشهد العام. وساهمت عوامل عدة، مثل انخفاض أسعار النفط وتراجع اليورو، في رفع معنويات المستهلكين وتحسين الصادرات. وفي ألمانيا على سبيل المثال، وهي أهم اقتصاد أوروبي، نجد مؤشر الإنتاج الصناعي الآن يحقق نمواً إيجابياً.

شهد الشهر الماضي أيضاً تطورات مهمة أدت إلى تحسين التوقعات في أوروبا. أولها وقف إطلاق النار الذي تم الإعلان عنه في أوكرانيا وصمد إلى حد ما، لأن روسيا فرضت هيمنتها في الحقيقة على الأراضي التي كسبها الانفصاليون شرق البلاد. وثانيها هو إدراك المتابعين بأن عجز اليونان عن سداد ديونها أو انفصالها عن الاتحاد الأوروبي لن يكون كارثة بالحجم الذي تصوره هؤلاء عام 2010 لأن معظم الديون اليونانية التي كانت مستحقة للبنوك اليونانية والأوروبية نقلت إلى مؤسسات أخرى مثل البنك المركزي الأوروبي، ما يحد من مخاطر تعرض البنوك الأوروبية لأزمة في حال عجز اليونان عن السداد. وانعكست هذه الأخبار الجيدة على أداء أسواق الأسهم الأوروبية ، لكن ارتفاع الدولار الأميركي جعل أثر هذا التحسن محدوداً بالنسبة للمستثمرين الأميركيين.

4. اليابان:

شكل رفع ضريبة القيمة المضافة العام الماضي في اليابان ضربة قوية للمستهلكين، لكن الانخفاض في أسعار النفط وفر على الاقتصاد الياباني ما يعادل 2.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وكان هذا، وفقاً لدراسة أجرتها أوبزرفاتوري غروب، أكبر من تأثير الزيادة الضريبية. كما أعطى انخفاض سعر صرف الين مقابل الدولار دفعة قوية للصادرات اليابانية. ومن المتوقع أن تؤدي زيادة الأجور إلى تضخم بسيط (بنسبة 1 في المئة) وتشجيع المستهلكين اليابانيين على الإنفاق من أرصدتهم النقدية، التي يربو مجموعها على 10 تريليونات دولار، بدلا من تجميدها في ودائع مصرفية. وهذا سيخفف الضغط عن بنك اليابان المركزي ويشجعه على تقديم المزيد من التسهيلات النقدية. وبالإضافة إلى ذلك، كانت أرباح الشركات اليابانية قوية عام 2014 ويتوقع لها أن تكون أفضل هذا العام. وأخيراً، فقد تقرر تأجيل الزيادة الثانية في ضريبة القيمة المضافة والتي كانت مقررة لهذا العام.

ووفقاً لوكالة 13D لأبحاث الأسواق، فقد ارتفع العائد على حقوق المساهمين في الشركات اليابانية إلى 8.3 في المئة، بالمقارنة مع 5.7 في المئة قبل عامين. وبلغ عدد حالات الإفلاس للشركات الصغيرة والمتوسطة أدنى مستوياته في 24 عاماً. كما حصل أكثر من 80 في المئة من خريجي الجامعات على عروض عمل غير رسمية. وشهد العام الماضي أكبر ارتفاع في الأجور خلال السنوات الـ 15 الماضية. كما بلغت عمليات إعادة شراء الشركات لأسهمها مستوى قياسياً في العام 2014، وما تزال تتصاعد. وقد استجابت الأسهم اليابانية إلى تحسن الظروف الاقتصادية، وكان الأثر السلبي لارتفاع الدولار على اليابان أقل من أثره على أوروبا.

وتشير التوقعات الإيجابية لأوروبا واليابان إلى أن اقتصادات الدول المتقدمة الكبرى تعود للاقتران من جديد مع الاقتصاد الأميركي من حيث الاتجاه، وليس العكس «الانفصال» كما كان الرأي السائد في بداية العام. ومع كل ما سبق، تبقى كل من هذه «الأساطير» عرضة للتغير بسرعة، وتجب مراقبتها عن كثب، إذ يمكن أن تتحول بسرعة واحدة منها أو اثنتان من أسطورة إلى حقيقة، إذا حدثت تطورات جديدة في النصف الثاني من العام.

* بايرون واين ، نائب رئيس شركة بلاك ستون