في الدولة الحديثة يلجأ الأفراد إلى القانون ومؤسسات الدولة لحمايتهم وحفظ حقوقهم، لذا ينحصر دور القبيلة هنا في عملية التكافل الاجتماعي الاختياري بين أبنائها، إذ إنه لا دور سياسيا لها، بل إن دخولها وحل السياسة و"وتكتيكاتها" وما يتطلبه ذلك من مناورات، وصفقات، وتنازلات، وتحالفات لا يؤثر على تماسك القبيلة داخلياً فحسب، بل يُهدد وحدة النسيج الوطني أيضا.

Ad

القبيلة، كما سبق أن ذكرنا غير مرّة، كيان اجتماعي مُحترم يقوم على أساس العرق ورابطة الدم، فهي ليست تنظيماً سياسياً مفتوحاً لأي شخص يوافق على خطه الفكري وبرنامجه السياسي بصرف النظر عن أصله ونسبه مع احتفاظه بحق الخروج من التنظيم متى ما شاء، إذ إن الإنسان ذا الأصول القبلية يظل يحمل اسم قبيلته وينتسب إليها إلى الأبد باعتبارها جذوره وعائلته الكبيرة.

وفي الوضع القبلي-العشائري هناك تابعون ورعايا لأمير القبيلة أو العشيرة، أما في الدولة الدستورية الحديثة فتندمج القبائل والطوائف والعوائل في مكون وطني واحد، حيث تكون المواطنة الدستورية المتساوية هي الأساس هنا، فيصبح الجميع مواطنين دستوريين أحرارا متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات، وبالتالي، ليس لأي أحد وصاية على أحد آخر إلا بما يمنحه القانون من سلطة؛ لهذا نرى أن أفراد قبيلة واحدة أو حتى عائلة واحدة ينتمون إلى أحزاب، أو جمعيات مهنية، أو نقابات، أو منظمات مجتمع مدني مختلفة، وقد تكون متنافسة أيضا.

 في الدولة الحديثة يلجأ الأفراد إلى القانون ومؤسسات الدولة لحمايتهم وحفظ حقوقهم، لذا ينحصر دور القبيلة هنا في عملية التكافل الاجتماعي الاختياري بين أبنائها، إذ إنه لا دور سياسيا لها، بل إن دخولها وحل السياسة و"وتكتيكاتها" وما يتطلبه ذلك من مناورات، وصفقات، وتنازلات، وتحالفات تُحتمها القناعات الفكرية والسياسية، والمصالح المختلفة لكل طرف من الأطراف السياسية لا يؤثر على تماسك القبيلة داخلياً فحسب، بل يُهدد وحدة النسيج الوطني أيضا.

إذاً القبيلة كيان اجتماعي وتشكيل سابق للدولة الحديثة، واستخدامها بالصراع السياسي سواء من السُلطة كما حدث غير مرّة، أو أي طرف آخر كما يحدث هذه الأيام من البعض لأهداف سياسية لا تخطئها العين، يُمثّل رجوعا لما قبل الدولة الحديثة، ويُسيء إلى القبيلة ذاتها، ويُساهم في زيادة تفتيت النسيج الاجتماعي الوطني الذي يعاني أصلا مشاكل كثيرة خلقتها السياسات السيئة للحكومات المتعاقبة.

صحيح أن هناك تراجعاً تنموياً وديمقراطياً، وعدم عدالة اجتماعية، وتهميشاً سياسياً للمواطنين ذوي الأصول القبلية، وتعسفاً وانتقائية في تطبيق القانون، وبطئاً في عملية التغيير الديمقراطي، وصحيح أيضا أن هناك ظروفا موضوعية أخرى بعضها ناتج عن فشل الدولة في القيام بوظائفها الأساسية، وبعضها الآخر ناتج عن العمل الدؤوب لقوى الفساد والإفساد المعادية للدستور والتقدم الديمقراطي، والتي تحاول تفتيت مجتمعنا فئويا وطائفيا، وعزل مكوناته عن بعضها حتى لا تتوحد للمطالبة في قضاياها المشتركة، وهي جميعها ظروف تدفع البعض لليأس من عملية الإصلاح السياسي والديمقراطي، وتجذبهم بقوة للعودة إلى مضارب القبيلة تحت ضغط الحاجة إلى الانتماء، وحماية الحقوق، وهو الأمر الذي يستغله تجار السياسة، فيصورونه وكأنه هو الحل السحري للمشاكل المعيشية، إلا أن الأصح أن التكتل القبلي أو الفئوي لا يحل مشاكل الحياة العصرية، بل يُورط القبيلة في وحل السياسة وألاعيبها، ويزيد الوضع سوءاً، ويُعطّل تحقيق مطالب الإصلاح السياسي والديمقراطي لبناء دولة مدنيّة ديمقراطية عادلة تتعايش فيها جميع المكونات الاجتماعية والسياسية.