رسائل آرندت وهايدغر... حب حورية الغابة وقرصان البحر

نشر في 29-10-2014 | 00:02
آخر تحديث 29-10-2014 | 00:02
ربما لم يعرف أي كتاب للمنظّرة السياسية حنة آرندت أو للفيلسوف مارتن هايدغر الاهتمام الواسع الذي حظي به كتاب جمع رسائل تبادلاها. {رسائل حنة آرندت ومارتن هايدغر} بالعربية (صدر قبل سنوات في طبعات أوروبية) تصدره دار {جداول} في بيروت. فـ{أي سرّ وراء استمرار العلاقة بين الاثنين على الرغم من اضطرابات وانقطاعات وخيبات أمل كثيرة أصابتهما، إضافة إلى تقرب هايدغر من النازية وانتماء آرندت إلى الديانة اليهودية؟}.
شغل الرأي العام ارتباط بين الفيلسوف الألماني هايدغر وبين الفيلسوفة الأميركية من أصل ألماني حنة آرندت. ربما تكون هي العلاقة الأبرز بين شخصين في الوسط الثقافي والفلسفي، حيث تُسمى {قصة حب القرن العشرين}. وفي مدة وجيزة، اهتمت بالعاشقين السينما والمسرح والندوات وحلقات الدراسة، والصحافة المتخصصة. وكان الباحث شتيفان هوكس توصّل في كتابه {بين الحب والفلسفة} إلى أن هايدغر كان واقعاً في حب آرندت أيضاً مثلها تماماً، وأنه لم يكن حباً من طرف واحد كما صوَّر البعض. إلا أن الفيلسوف كان حذراً جداً في إخفاء مشاعره، لا سيما أنه كان كاثوليكياً متزوجاً، ويعيش في مناخ محافظ. بالتالي، إعلانه الحب كان من شأنه القضاء على سمعتيه الاجتماعية والأكاديمية في آن. أكثر من ذلك، أن القضية تخطّت دين هايدغر وولاءه أو هوية حنة، وهذا ما توضحه رسائل تنشرها بالعربية دار {جداول} في بيروت، حيث تتساءل: {أَساهم تصوّر آرندت للحب واهتمامها به في أطروحتها وفي تعلّقها به بعمى نفسي وروحي؟ أي شيء أحبّت فيه وهو الذي يعتبر عند البعض كومة من خيبة الأمل والرسوب والعناد وعدم الثقة، كما زعم ذلك المحلل النفساني فيشر؟}. والحال أن تبادل الرسائل بين حنّة آرندت وبين مارتن هايدغر يشبه إلى حدّ ما طريقاً سياراً يدور حول مدينة كبيرة، ولهذه المدينة مداخل عدة آهلة بأفكار وعواطف. ما قد يهم الفيلسوف في اهتمامه بأفكار الرسائل لن يكون شيئاً آخر غير {مفهوم الحب} نفسه في بعده الفلسفي المحض.

صاحبة {حياة الروح} كانت ترفض أن تُنعت بالفيلسوفة وتفضل {منظرة سياسية}، وهي في رسائلها عاشقة بامتياز. ولكنها باستثناء رسالة أطروحتها {الحب والقديس أوغسطين}، لم تخصص (ولا هايدغر) أي دراسة قائمة بذاتها للحب كنشاط فلسفي. لا يتعلق الأمر إذاً بنسق فلسفي قائم بذاته في أعمال الاثنين، بل بما يمكن للمرء أن يستشفّه على ضوء الرسائل ومن خلال شذرات كثيرة في ما نشراه في كتابات أخرى، إذ يظهر أن الحب لا ينحصر لديهما بكونه دافعاً غريزياً، إيروتيكياً، بل يبدو أن له تأثيراً بنيوياً في تفكيرهما. وباتت علاقتهما توازي شهرةً علاقة الكاتبة والمفكرة الفرنسية سيمون دي بوفوار بالفيلسوف والكاتب المسرحي جان بول ساتر، تلك العلاقة التي قيل الكثير في شأنها، وتناولتها كتابات وفيرة، وما زالت حتى الآن مسار جدل وتعليقات ثقافية ونسوية.

 

من الأرشيف

اللافت والغريب أن العلاقة الشهيرة اليوم والتي جمعت صاحبة {أصل التوتاليتارية} و{رجال في عصور مظلمة} بهايدغر ما بين عامي 1925 و1930، ظلّت علاقة- تابو، غامضة، بل مجهولة، إلى حين نشرت مراسلاتهما ورسائلهما المتبادلة للمرة الأولى في عام 1998. كان ليبقى الكتاب في الأرشيف الأدبي الألماني في مدينة مارباخ لولا جهود الباحثة إليزابيث يونغ بروهل عام 1982 في كتابها For Love of the World، وذكرت أن تبادل الرسائل بين العاشقين مُوَثق، لكنه كان موضوعاً في سرية في الأرشيف، حيث حرصت الفيلسوفة على الاحتفاظ بنسخ من الرسائل. وهي كانت تطلب من هايدغر أيضاً عدم تمزيق الوثائق الشخصية، وكأنها كانت ترى الرسائل منشورة يوماً. أو هذا ما أرادته. ونجحت إلزبييتا إتينغر عام 1995، خلال تدوينها كتاباً عن حياة آرندت، في معاينة الرسائل، وقررت أن تنشر في السنة نفسها في سلسلة {بايبر} كتاباً بالألمانية بعنوان {حنة آرندت- مارتين هايدغر: قصة}. وعقب الكتاب الذي قدم هايدغر بصورة سيئة قرر أحد أبناء الأخير وضع الرسائل في متناول القراء.

 

الفلسفة المحكمة

والقصة بين الفيلسوف هايدغر وتلميذته، وجدت لتكون أشبه بمسلسل شديد التشويق والغموض والإبهام والصرامة، هو المتزوج كان يعشقها وهي التي تزوجت وبقيت على عشقه وما بينهما فلسفة، وليس أي فلسفة، إنها الفلسفة المحكمة، فلسفة هايدغر المؤثرة بعشرات الفلاسفة الجدد وفلسفة آرندت التي يشهد العالم العربي عودة لها، خصوصاً في السنوات الأخيرة كأن القراء يكتشفون حديثاً كلامها. في الجامعة كان مارتن هايدغر الأستاذ الشاب يسحر مستمعيه، وأتت حنة آرندت، الطالبة اللامعة المتحدرة من أصل يهودي، لتقلب حياته رأساً على عقب، وتتخطى قوة زوجته وحنانها لتوقعه في حبائل وجدانها. وهي درست مادة الفلسفة في ماربورغ من خريف 1924 إلى 1926. آنذاك، بلغ هايدغر من العمر خمس وثلاثين سنة، وكان يشتغل على كتابه {الكينونة والزمن} والتقيا وبدأ التواصل سواء من خلال الدراسة أو عبر الرسائل.

تعود رسالة الفيلسوف الأولى إلى 10 فبراير 1925. كان هايدغر يخاطب آرندت بالشكل التالي: {عزيزتي الآنسة آرندت}، فيما جاء الوقيع على الشكل التالي: {مارتن هايدغر الذي لك}. أما الرسالة المؤرخة في 21 من الشهر ذاته فنادى فيها تلميذته قائلاً: {عزيزتي حنة} و{مارتن الذي لك}. وفي 27 من الشهر ذاته، كتب لها قائلاً: {الشيطان... في داخلي}، وأجابته آردنت بنص يتعلق بسيرتها الذاتية عنوانه {ظلال}، فيه شرحت ضجرها ومخاوفها الطفولية. وفي أبريل عام 1925، اتصل هايدغر بأرندت وناداها بـ{محبوبتي} وتمنى لها ليلة هانئة، وراح منذ ذلك التاريخ يوقع رسائله {مارتن الذي لك}. كان يناديها {حورية الغابة}، وهي كانت تلقبه بـ {قرصان البحر}.

كان لأرندت تصور خاص عن الحب: {الحب من طبيعة غريبة على العالم، ولهذا السبب، وليس بسبب قِلَّتِهِ، فإنه ليس فقط غير مُسَيَّس، لكن ضد السياسة، قد يكون أقوى من كل القوى الضد سياسية}. وتضيف: {لا يهتم الحب بما قد يكونه الشخص المحبوب، بمزاياه ومساوئه كما بنجاحاته}.

ودامت فترة الرسائل لسنوات قليلة. بعد ذلك، لم يحدث أي اتصال بين العاشقين، طيلة الفترة الممتدة من 1933 إلى 1950. غادرت التلميذة ألمانيا النازية، أما هايدغر فلم يزعجه قط، تحت سيادة هذه السلطة المعادية لليهود تحديداً، أن يرأس جامعة فرايبورغ سنة 1934. لكنه التقى بآرندت ثانية يوم 7 فبراير 1950. على الرغم من بعض لامبالاته حيالها، فقد كانت المعشوقة فاعلاً ثقافيا لا يكل. وفي بداية الستينيات، دشّن العاشقان السابقان، آخر حلقة لهما: تبادل فلسفي من طبقة رفيعة. كانت هي المنسقة لترجمات كتبه إلى الإنكليزية في الولايات المتحدة الأميركية، بل ممثلة غير رسمية له في معظم أموره، والحبيبة المقدمة للنصيحة في أمور بيع مخطوطاته والمتلهفة للقائه كل مرة زارت فيها أوروبا والمناقشة لأفكاره وأطروحاته. سنة 1969، لما بلغ هايدغر عمر الثمانين، زارته آرندت وهو {أستاذها الذي تعلمت بجانبه، كيف تفكر}. وكتبت آنذاك تقول إنها «تعلمت التفكير من المعلم» (هايدغر)، وإنها «ما زالت تفكر به كما كانت على الدوام».

تطرح مجلة «لير» الفرنسية، التي أعدت ملفاً حول الفلاسفة والجنس، السؤال: «ألم يستسلم «العزيز الأسمر الصغير» (هايدغر كما تسميه زوجته) لشهوته أمام طالبة يهودية جميلة، وهو ما تحظره عليه كاثوليكيته المنتمية إلى منطقة سواب الألمانية؟». بل نسأل: ألم يستسلم أمام نفسه وأمام أفكاره، تحديداً كتابه «الدفاتر السوداء» الذي ضمّنه كثيراً من العداء للسامية، حيث اعتبر أن اليهود مختلفون عن الألمان وأنهم يولدون ولديهم موهبة حبّ المال وتكديسه، مؤكداً أنهم يتمتعون بقدرة فائقة على التلاعب وعلى إخفاء نواياهم. فهل كان عشقه ليهودية ضرباً من جنون فلسفي؟

ولكن ربما لا يهتم باحثو الفلسفة لمثل هذه التفاصيل، أو هم يتجاوزونها نحو الأهم والأرفع، نحو «الفلسفة» الخالصة بحد ذاتها. فآرندت اليهودية بدورها كتبت أطروحتها «الحب والقديس أغسطين»، وهو كان المدافع العنيد عن الديانة المسيحية، تحت إشراف الفيلسوف الوجودي المسيحي البروتستانتي كارل ياسبرز، وكان الأخير اقتراح هايدغر نفسه بعدما شعر بأن زوجته لاحظت أن علاقة تجمعه بتلميذته.

back to top