موت وخراب ديار
ليست المصيبة في أن ينضب النفط، المصيبة الحقيقية هي أن يبقى عائماً تحت أقدامنا دون راغب فيه. نشرت جريدة "الجريدة" تقرير "موديز" قبل أيام الذي يحذر من نفاد النفط خلال تسعين سنة، تقرير لا يختلف كثيراً عن سابقاته التي تنشر باستمرار منذ عقود عن قرب موعد نفاد النفط، لربما دون التفات حقيقي وجاد نحو خطر نفاد أهميته لدى دول العالم المتقدم، تلك التي تعمل ومنذ أمد طويل على إيجاد بدائل للنفط أكثر فاعلية وأقل تكلفة وإضراراً بالبيئة، بدائل تعتمد على عناصر الطبيعة اللامحدودة وبأساليب استخدام "صديقة" تتواءم مع الكرة الأرضية ولا تعاديها باستحداث مشاكل مثل مشكلة الاحتباس الحراري، وارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون، والتلوثات والأمراض المختلفة. تتعدد هذه البدائل من طاقة الرياح والبحر والشمس إلى الطاقات النووية، بل حتى طاقات النفايات الحيوية وغيرها.في هذا السعي الحثيث نحو إيجاد الطاقات البديلة الأقل تكلفة والأعلى أمناً ستفقد دولنا كل مكانة استراتيجية لها، ومع مرور الوقت، ستتحول وبكل أسف إلى أراض جرداء لا قيمة طبيعية لها، لربما أن الكارثة المقبلة هي بحجم كارثة نووية أو تزيد، ستنحدر في أولها كل القيم المعيشية وتتحول فيها الدول الغنية إلى دول مدقعة الفقر، بعدها ستتدهور العلاقات الإنسانية، وسيتحول سكان هذه الدول من بشر متطورين إلى كائنات عدائية شرسة في بحثها عن لقمة العيش، حيث ستنعزل هذه الأماكن البور متحولة إلى صحارى حارقة يعيش فيها أشباه بشر عنيفين بجوعهم وأمراضهم. لربما يبدو هذا الحديث غائراً في مبالغاته، ولربما يبدو سوداوياً مرعباً، ولكن الحقيقة تبقى دوماً تطل بوجهها حتى إن رفضنا أن ننظر فيه: ما إن تنحدر القيم المعيشية، وما إن يجوع البشر حتى يفقد اهتمامه الحقيقي في الحياة ويتحول إلى كائن مفترس لا يختلف كثيراً عن الكائنات "الأقل ذكاء" الأخرى من حوله.
في فيلم Threads الذي أنتجه التلفزيون البريطاني عام 1984 يتم استعراض شتاء نووي يصيب شمال إنكلترا بعد تفجير قنبلة نووية في مدينة شفيلد والكيفية التي يتحول بها وخلال وقت قصير نسبياً السكان من بشر إلى أشباه حيوانات، يظهر الفيلم، والذي أُخرج في صورة دراما توثيقية، الكيفية التي تتدهور بها الحياة سريعاً بنضوب الموارد البشرية والاحتياجات الرئيسية، وكيف يتوحش البشر في وقت قصير نسبياً بعد الكارثة، والمثير للانتباه، أن أول ما يفقدون اهتمامهم فيه، وعلى عكس ما نتصور، هو الدين، وكأن الدين والعبادة ترف يعود لا يبقى لديهم وقت له.قد يرى البعض أن في هذا الحديث مبالغة جسيمة أو خلطاً بين كارثة نووية وكارثة نضوب نفطية، ولكن التحليلات العلمية للكوارث البشرية، ونضوب النفط هو أحد أكبرها للدول المعتمدة عليه، كلها تشير إلى أن النتائج غالباً ما تكون متشابهة: تدهور شديد في الظروف المعيشية وبالتالي في الطبيعة الإنسانية مما يحول البشر إلى وحوش؛ ولأن موعدنا مع كارثتنا لن يتأخر عن قرن من الزمان، ولربما أقرب بكثير في حال وجدت الدول الحديثة البدائل المناسبة للنفط، وهي ستفعل لربما في الثلاثين سنة القادمة لا محالة، فنحن إذاً في خطر حقيقي محيق.المصيبة الأكثر وعورة هي أنه وبينما يزف إلينا تقرير "موديز" مصيبة نضوب النفط، فإنه يرفقها بمعلومات عن انحدار التعليم وافتقاد التنافس و"محدودية" الاستثمارات الأجنبية كما أوردت جريدة "الجريدة"، يعني موت وخراب ديار، فلا نحن من النفط ولا نحن من البشر الذين يحيون فوقه. وفقرنا المدقع تظهر آثاره من الآن علينا، عقليات محدودة لا تنظر لأبعد من أسبوع، نهتاج بالفرحة كلما أعلنت الحكومة هبة أو مكرمة، أوراق نقدية نفرح بتدفقها ولا نعلم أنها أكفان نعدها لأجيالنا القادمة، اللهم احفظم من الشر. طائفيات وتعصبات قبلية وعائلية ودينية، كراهيات متعددة وعداء غير مبرر للعالم الخارجي، فكيف سنحيا في العالم الجديد عندما ينضب نفطنا، مصدر وسامتنا، ولا يتبقى منا غير العقول المنغلقة والنفوس المشحونة والوجوه المكفهرة؟ كيف سنبقى في عالم تنافسي شديد الوعورة ونحن يتوقف تسليحنا عند مناهج انتهت صلاحيتها، أكثرها كثافة في العام الدراسي هي تلك المنصبة على "عادات الجن، ملبس الرجال والنساء، تحريم المصافحة، و(الجزء المفضل لدي) تدني مستوى ذكاء المرأة وفطنتها وتبلد مشاعرها أثناء المحيض والحمل"؟ أمامنا جيلان، لربما ثلاثة، بعدها سينتهي الحلم الرعوي الجميل، وسيكون علينا أن نحمل الفؤوس ونحفر الأرض، فكيف سنفعل بكفوفنا البضة وعقولنا الفظة؟