يواجه عدد كبير من الناس الناشطين، سواء كانوا موظفين أو لا، خطر معاناة حالة الاستنفاد العاطفي هذه التي تترافق مع العمل. لكن المشكلة تكمن في أنها قد تتطوّر نحو الأسوأ: وقوع المريض في دوامة متواصلة من الألم. يوضح الخبراء أن هذا الاحتراق الداخلي يطغى تدريجاً على قوانا ورغبتنا في الحياة ويحول الإنسان إلى ما يشبه الطيف.

Ad

ضغوط في العمل

إليك لمحة سريعة عن المهنة الأكثر عرضة لهذه الحالة: المزارعون (23.5%)، الحرفيون، التجار، ورؤساء الشركات (19%)، العاملون في مجال التعليم، بمن فيهم المدرسون والبروفسورات (19.7%)، وموظفو المؤسسات التجارية، مثل عمال الفنادق والمحال والعمال العاديون (13.2%). تعود أسباب هذا المرض إلى تنامي الضغوط للإنتاج، نقص العمال، الخوف من البطالة الذي يدفع العامل إلى التمسك بوظيفته، والتوصل إلى ابتكارات تكنولوجية جديدة تكون لها أحياناً تأثيرات قوية...

إليك قصة ثلاثة أشخاص عانوا هذه الحالة والطرق التي واجهوها بها:

• رامي (45 سنة، موظف بارز في شركة كبيرة):

خلال 17 سنة، أعطيت كل ما أملك للمؤسسة التي أعمل فيها كما لو أنها ملكي، حتى إنني ضحيت بحياتي الشخصية. عملت من الساعة السادسة صباحاً حتى منتصف الليل، خلال نهايات الأسبوع، وأثناء العطل. في الصيف الماضي، ألغيت عطلتي لألبي حاجات عميل مهم. نتيجة لذلك، شعرت أنني في دوامة قاتلة. فمن جهة، شعرت أن منصبي عالٍ وأن رؤسائي لا يستغنون عني. صار الجميع يعرفونني، كما منحني عملي الرضا الفكري والمالي. لكنني من جهة أخرى، كنت أتعرض لضغوط رئيسي المتواصلة، علماً أنه لم يلحظ أنني أضطلع بمهام ثلاثة موظفين، ولا يتذكر إلا أن راتبي مرتفع.

لكني منذ أربعة أشهر، طفح الكيل وما عدت أستطيع التحمل. بدأ انفجاري هذا مع عبارة وجهها إلي صديق وزميل في العمل: {لا تبدو على خير ما يُرام...}. فصحت به بطريقة عنيفة لم أعهدها من قبل. ما عاد شيء يرضيني، حتى إنني صرت أرى دوماً {الحبة قبة}. كذلك تبدلت تصرفاتي مع عائلتي من دون أن أعي ذلك. لم ألحظ التعب الذي كان يسحقني إلى درجة السقم. نتيجة لذلك، صرت أناضل لأعد أبسط التقارير التي ما كانت تستغرق أكثر من ساعة، ما فاقم شعوري بالإجهاد. وبإصرار من المقربين مني، استشرت الطبيب الذي أرغمني على التوقف. شكلت حالتي هذه صدمة نفسية قوية وجرحاً عميقاً. فقد أعطيت الكثير، ظناً مني أن هذا أفضل. وعندما أدركت أني كنت مخطئاً، خسرت كل شيء وصرت أشكك في أسس حياتي كلها.

شعرت بألم نفسي لا يوصف كما لو أنني تعرضت لضربات نفسية على الرأس. ولولا المقربون مني وطبيبي وطبيب العمل الذي وجهني إلى معالج نفسي متخصص، لما  كنت تخطيت اليوم محنتي هذه بالإضافة إلى ذلك، كان من الضروري النظر إلى المستقبل بطريقة مختلفة ورسم خطة واضحة (ترك الشركة والنهوض مجدداً في مكان مختلف). نتيجة لذلك، يشكل هذا الاستنفاد حادث عمل من الضروري الاعتراف به، في نظري كي يتمكن الجميع من الحصول على المساعدة الضرورية، وخصوصاً من المعالجين النفسيين. فبمعونتهم يتمكَّن المريض من العثور على الدرب الصحيح للنهوض مجدداً من كبوته، استعادة ثقته في نفسه، وإعادة بناء حياته.

• ورد (34 سنة، مسؤولة سابقة عن الموارد البشرية في سلسلة متاجر دولية):

كنت أهرع صباحاً إلى العمل لأنني حظيت بالمنصب المثالي الذي كنت أحلم به منذ عشر سنوات. أردت النجاح مهما كان الثمن. أنا شخص طموح لا يخشى التحديات والمسؤوليات. ورغم ثقل العمل الهائل، احتفطت بشغفي وتمكنت من مواصلة هذا النمط طوال أربع سنوات. فضلاً عن ذلك، كنت أخشى البطالة وألا أتمكن من العثور على وظيفة مماثلة لاحقاً.

استمريت على هذا النحو إلى أن تجمَّدت على رصيف محطة القطار ذات يوم وأنا في طريقي إلى العمل. لقد بلغت حدي، رغم تفاؤلي وحماستي. منذ بدأت هذا العمل زرت الطبيب مراراً، اكتسبت 18 كيلوغراماً. فبسبب ضيق الوقت كنت أتناول وجبات غير متوازنة وأنا جالسة أمام الكمبيوتر أو واقفة أدردش مع الموظفين لأن عملي كان يقوم على الإصغاء إليهم.

عانيت مشاكل عضلية- عظمية واضطرابات على مستوى العنق أرجعتها إلى الجلوس مطولاً أمام جهاز الكمبيوتر لا إلى كم الإجهاد الهائل. واجهت بعد ذلك اضطرابات في النوم والذاكرة وصعوبة في التركيز. عانيت صعوبة في التفكير والحفظ. قبل أربعة أشهر من انهياري، بدأت أخطئ في أسماء الموظفين، مع أنني لم أواجه مشكلة مماثلة سابقاً... نتيجة لذلك، صرت أكره عملي وشعرت أنني من دون جدوى. ثم جاء الحدث الأكثر إهانة: مؤتمر في الولايات المتحدة يجمع المسؤولين كلهم عن الموارد البشرية باستثنائي. فاستقلت.

رغم تلك الساعات الطويلة كافة وليالي السهر والطاقة التي خصصتها لإنجاح الآخرين والمؤسسة التي أعمل فيها، لم أحظَ يوماً بأي مديح أو ثناء. شعرت غالباً أنني وحيدة، إلا أنني قررت أن أبذل قصارى جهدي وأعرب عن قدراتي وإمكاناتي. مع ذلك، أُقفل الباب في وجهي. أنا شخص قوي، غير أن ألمي تخطى كل حد. حتى إنني فكرت في الانتحار. أما اليوم، فتحسنت حالي. بعد 15 شهراً من الراحة، أعمل راهناً مستشارة في مجال الموارد البشرية، إلا أني أسعى في المقام الأول إلى حماية نفسي وصحتي.

• مريم (51 سنة، طبيبة تخدير):

بدل أن أدخل تحت الدش ذات يوم، اكتفيت بالجلوس على حافة حوض الاستحمام. تسمَّرت في مكاني. شعرت أن جسمي ثقيل وساقيّ من رصاص. قبل بعض الوقت، كنت أعاني القلق، إلا أن هذه كانت مرحلة عابرة. لكن القلق تملكني هذه المرة. اعتدت في حياتي تحقيق النجاح تلو الآخر، ولم أعرف الفشل يوماً. برعت في المدرسة وفي معهد الرقص. كذلك أبيت إلا أن أكون الطبيبة الفضلى، الأم الفضلى، الزوجة الفضلى، والصديقة الفضلى، ونجحت. برهنت أن الجميع يستطيع الاعتماد علي، وخصوصاً في المستشفى وبين زملائي الجراحين.

عندما هجرني زوجي، أردت التمسك بدور الأم المثالية ورفضت أن ننتقل أنا وأولادي إلى منطقة أو شقة أخرى. لذلك قررت أن نجدد شقتنا. وكي أتمكن من تسديد التكاليف بسرعة وقلب الصفحة، قررت أن أتخلى عن أيام راحتي وأن أعمل في مستشفى آخر كطبيب مقيم، مع أن هذا أمر غير قانوني. حافظت على تماسكي خلال تعاملي مع مرضاي، بيد أن أوجه حياتي الأخرى بدأت تتداعى. لكني لم ألحظ فداحة المشكلة التي تنتظرني إلى أن شعرت أني مستنفدة.

انتهى بي المطاف إلى الشعور بأنني أشبه بدولاب الهواء. رحت أدور حول نفسي في عقلي من دون أن أتمكن من السيطرة على أي وجه من أوجه حياتي. فقدت مهنتي وحياتي كل معنى. والنتيجة: تسعة أشهر من الراحة مع متابعة نفسية وأدوية مضادة للقلق في البداية. وهكذا ولدت مجدداً، تعلمت أن أقر بحدودي، وأدرك أن من حقي ألا أكون كاملة.

للحصول على المساعدة...

طبيب العمل: اتصلي به أولاً. واعلمي أنه خاضع لواجبات أسرار المهنة ولا ينقل أي معلومات لرب العمل.

صفوف التحكم في الإجهاد في بعض الشركات: تدرب هذه الصفوف الموظفين على محاربة الاستسلام للإجهاد. لذلك لا تتردي في الاتصال بقسم شؤون الموظفين للاستعلام عن صفوف مماثلة.

استشارة المعالجين النفسيين المتخصصين في محاربة الإجهاد في المستشفيات أو المراكز الطبية أو العيادات الخاصة.

 أسئلة مهمة

ما أوجه الاختلاف بين الكآبة والاستنفاد؟

يشمل الاستنفاد عوامل انهيار على ثلاثة أصعدة: الأول شعور بالفراغ الداخلي والعجز عن الشعور بالفرح. ويغيب أي حافز مهني. الثاني نوع من تبدل الشخصية. فلا يعود المريض يتفاعل مع عائلته وزملائه كما في السابق ويعيش في فقاعة. والثالث غياب الإنجاز في العمل يترافق مع شعور بالاستياء، الظلم، وتراجع الثقة في النفس.

ما هي الإشارات التي يجب التنبه إليها؟

التعب، القلق، اضطرابات النوم، ارتفاع نبض القلب، مشاكل هضمية، مزاج عكر يترافق مع تراجع العلاقات مع زملاء العمل، توتر عائلي، و/أو تراجع العادات الصحية والنظافة... كذلك يُعتبر بعض الشخصيات أكثر عرضة: مَن يرفضون الاستسلام، الميالون إلى المثالية، محبو التحديات، مَن يخصصون كامل حياتهم لعملهم، مَن يعلقون أهمية كبيرة على آراء الآخرين، القلقون، العصبيون، والعاطفيون. يزدهر هؤلاء من خلال عملهم وينهارون عندما لا تأتي النتائج على قدر توقعاتهم (تقييم أداء، صورة مثالية عن نفسهم...).

كيف نعالج هذه المشكلة؟

من الضروري أولاً الابتعاد عن الجو المسبب للإجهاد بالتوقف عن العمل. يلي ذلك الخضوع لعلاج سلوكي ومعرفي للخروج من دوامة الأفكار الخاطئة المرتبطة بالعمل ربما باللجوء إلى معالج نفسي. بالإضافة إلى ذلك، من الضروري تعلم التحكم في الإجهاد من خلال اليوغا مثلاً أو التأمل وممارسة نشاطات شخصية والرياضة. كذلك قد يُضطر المريض أحياناً إلى تناول الأدوية (مضادات القلق أو الكآبة). والأهم من ذلك كله تعديل ظروف عمله.