صوت الإنسان
في كل مرة تنفطر فيها سماء الأدب ويسقط نجم نصاب بالحنين أكثر مما نصاب بالحزن. نصاب بأيامنا التي عشناها قراء وأصدقاء وعبرناها مراحل وانفعالات وأحياناً صراعات واحتداداً فيما بيننا يتلاشى فجأة حين نشعر بوطأة الفقد. نتفق جميعاً على وجع الرحيل الذي نتقاسمه حين يموت شاعر شعب تتبعنا صدى حدائه الشجي عقوداً طويلة. رحل الشاعر الشعبي، وربما أشهر شاعر شعبي في الوطن العربي حالياً، عبدالرحمن الأبنودي، بعد أن ملأ الدنيا غناء جميلاً للإنسان والوطن والحب، وكان صوتاً مدافعاً عن الإنسان والظلم الذي يقع عليه سواء من الصديق أو العدو. والأبنودي حمل هموم هذا الإنسان منذ أن كتب على لسان العامل حراجي القط عام 1969 رسائله التي شكلت رحلة بناء السد العالي. وإذا كانت نجمة أغسطس للروائي صنع الله إبراهيم هي الصوت الأدبي الفصيح لتلك الرحلة فإن نشيد الأبنودي هو المعادل الشعبي الأهم وربما هو الأقرب لبسطاء الناس.
ما قدمه الأبنودي خلال تلك الرحلة الشعرية الشعبية يسير على مستويين، الأول تقديم الصورة الشعرية مستخدماً اللهجة المصرية الدارجة والتي ارتبطت بالمواطن العربي اجتماعياً وفنياً وهو ما لم يكن ليتحقق لشاعر عربي يستخدم العامية في الجزائر أو المغرب أو حتى اليمن القريب منا. والمسار الثاني متعة الإلقاء والنبرة التي تميز بها الشاعر. في بداية تعرفي على الأبنودي، شاعراً وليس إنساناً، قرأت جوابات حراجي القط، ولكني استمعت إليه فيما بعد يقرؤها بصوته، لأدرك أن الشعر الشعبي ليس حرفاً فقط بل هو صوت أيضاً. انحاز الأبنودي للإنسان البسيط في مصر والعالم العربي بعيداً عن الطرح السياسي المباشر متخذاً موقفاً واضحاً مع معاناته، وهو الدور الذي كان الشعر الشعبي يبتعد عنه مركزاً اهتمامه الأكبر على الشعر الغنائي تحديداً، والذي يبتعد فيه الشاعر عادة أمام نجومية المطرب. والأغاني التي قدمها الأبنودي كانت علامات فارقة في سيرة أغلب المطربين العرب الذين عاصروا تجربته، لكن مشروعه الشعري كان إنسانيا بالدرجة الأولى حتى لا يتم وصفه بالشاعر الغنائي بل بشاعر الشعب.في الكويت نذكر الأبنودي الشاعر الذي خلق قاعدة كبيرة في مصر والعالم العربي تتعاطف مع الحق الكويتي بعد أن تباينت الآراء وتشتت وهو يسجل شعراً معاناة الشعب الكويتي عام 1990، ويكتب ديوانه "الاستعمار العربي" الذي ألقاه في الكويت المحررة على مسرح المعاهد الخاصة وسط حضور كثيف كان يعرف قيمة الشاعر ويثمن دوره الكبير في إطلاق كلمة الحق التي كادت تضيع تحت هيمنة الإعلام العراقي حينها وهداياه التي وزعها على مجاميع كبيرة من المثقفين والشعراء.قلة من الشعراء الشعبيين حققوا مشروعاً شعرياً إنسانياً حقيقياً لن يكون بالإمكان أن نخرجهم من العمل الإبداعي العربي الكلي، وسيبقون رافداً مهماً من روافد الأدب العربي بغض النظر عن اللهجة الدارجة التي كتبوا بها. وأثبتوا أن الشعر الشعبي رسالة لا تقل أهمية عن شعرنا العربي الفصيح. رحل الأبنودي، ولكن صوته الشجي المميز وحسه الإنساني والدرامي، التدراجيدي والكوميدي، والمزج بينهما أحياناً، سيبقى حياً لأنه كان أصيلاً وأصيلاً جداً.