«تجنب المواجهة غير المنسقة» في سورية: حلّ لاحتواء «داعش» لا هزيمته
عودة بشار الأسد إلى وضعه السابق لن تكون عودة حاكم شرعي يعيد النظام لبلاده بل ستأتي في الأساس نتيجة وجود فيلق إيراني مؤلف من لاعبين أجانب يؤدون دوراً على مستوى الجهات الحكومية الفرعية، وبالتالي فإن الجزء القتالي من مسعى طهران لتغيير "الهلال الخصيب" بشكل جذري هو أمر ستستمر القوى السنية في المنطقة بمعارضته وبشكل خاص تركيا ودول الخليج العربي.
صحيح أن سياسة واشنطن الحديثة المنشأ التي تقضي "بتجنب المواجهة غير المنسقة" مع نظام بشار الأسد في الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" قد لا تشكل تحالفاً رسميّاً، لكنها قد تسبب مشاكل جدية. فالموافقة الضمنية للنظام على تجنب استهداف طائرات الائتلاف، بالإضافة إلى التأخير المطول في برنامج التدريب والتجهيز الذي تنفذه إدارة الرئيس الأميركي أوباما للمعارضة السورية ورسالة الرئيس في أكتوبر 2014 للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية حول التعاون ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، جميعها عوامل تولّد انطباعاتٍ شائعة بأن الولايات المتحدة تتوجّه نحو حلف فعلي مع الأسد وطهران ضد الجهاديين. وإذا استمرت واشنطن في هذه السياسة على ما هي عليه، فلن تتمكن سوى من احتواء تنظيم "داعش" وليس "هزيمته" أو "القضاء عليه" كما دعا الرئيس أوباما، والأسوأ من ذلك هو أن هذه السياسة قد تؤدي إلى مأزق دموي من التطرف في سورية بين قوات "حزب الله" التي تحظى بالدعم الإيراني والجهاديين، مما يزيد من التهديدات على مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة.
تجنب المواجهة غير المنسقةإثر اندلاع شرارة الثورة السورية في عام 2011، تخلت الولايات المتحدة عن سياسة "التعاون البناء" التي كانت تتبعها مع النظام السوري ودعت الأسد إلى "التنحي"، ولكن مع تطور النزاع، واتخاذ الرئيس أوباما قرار عدم تسليح الثوار بشكل حاسم وعدم تطبيقه لـ"خطوطه الحمراء" على الهجمات الكيميائية التي شنها النظام، شغل الجهاديون- من أمثال تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة" التي تدور في فلك تنظيم "القاعدة"- المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة المعارضة بسرعة، مكتسبين بذلك عمقاً استراتيجيّاً لشنّ الهجمات ثانية في العراق، إلا أن الحملة الشعواء التي شنها "داعش" على الموصل، وانهيار قوات الأمن العراقية المدربة من الولايات المتحدة، وإعدام الرهينتين الأميركيتين، عوامل دفعت بالرئيس أوباما إلى الدعوة للقضاء على التنظيم، ولتحقيق هذا الهدف أطلق الائتلاف الدولي بقيادة الولايات المتحدة مقاربة ذات شقّين تعتمد أولاً على القيام بعمليات قصف وثانياً على تسليح قوى مختارة مضادة لـتنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسورية.وبهدف تنفيذ الشق الأول من هذه الاستراتيجية وضعت واشنطن سياسة بواسطة بغداد أشار إليها مسؤول أميركي لم يُذكر اسمه في مقال نُشر في صحيفة "واشنطن بوست" في الأول ديسمبر بالمصطلح "تجنب المواجهة غير المنسقة". وفي سبتمبر الماضي، مباشرةً قبل توسيع الضربات الجوية الأميركية إلى سورية، أرسلت الحكومة العراقية ذات القيادة الشيعية المتحالفة مع إيران مستشار الأمن الوطني فالح الفياض لمقابلة الأسد. ومع أنه لم يتم الكشف عن تفاصيل الاجتماع، إلا أن فحواه كانت واضحة، ومنذ ذلك الحين نفذ الائتلاف أكثر من 900 طلعة جوية حلقت فوق سورية دون أن تتعرّض لها قوات النظام.ويقضي الشق الثاني من الاستراتيجية بتسليح فاعلين على مستوى الجهات الحكومية الفرعية، أبرزهم قوات البشمركة في العراق والمعارضة المعتدلة في سورية، وتتم المساندة الأميركية للبشمركة بإذن من الحكومة العراقية، بيد أن العلاقة أكثر تعقيداً في سورية، حيث يجب تدريب المعارضة وتجهيزها من دون موافقة الحكومة المضيفة. ومع أن الجيش الأميركي لا يحبذ هذا الإجراء إلا أنه سبق أن اضطر إلى اللجوء إليه كما شاهدنا مع قوات البشمركة خلال "عملية المراقبة الشمالية" في التسعينيات، وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن الثوار السوريين أظهروا اتساقاً سياسياً أقل من ذلك الذي أعرب عنه نظراؤهم الأكراد، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول الجهة التي يُفترض أن تكون مسؤولة عن القوى التي ستحظى بتدريب أميركي.وعلى الرغم من نجاح هذه الاستراتيجية حتى الآن في العراق، فإن لشقيها أهدافا متعارضة في سورية، فأثناء ضرب أهداف "داعش" تفضل القوات الأميركية أن تحلق طائراتها فوق الأراضي السورية من دون أن تتعرض لنيران النظام. لكن من أجل هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية" بالفعل، على الولايات المتحدة وحلفائها أن تدرب قوة معارضة وتجهزها للسيطرة على المناطق ذات الأغلبية السنية التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" حاليّاً الأمر الذي يثير استياء الأسد.للأسف، أعاق التصور الشعبي للشق الأول من الاستراتيجية شقها الثاني بشكل كبير، فحين توسعت الضربات الأميركية التي تستهدف تنظيم "الدولة الإسلامية" بشكل غير متوقع في سبتمبر لتشمل "جبهة النصرة" في محافظة إدلب الغربية، وجّهت هذه الأخيرة هجماتها على جماعات "الجيش السوري الحر" المدعومة من الغرب في منطقتها، وشمل ذلك هجوماً كاسحاً على "جبهة ثوار سورية" و"حركة حزم"، وكانت الجماعات المهزومة مسلحة بصواريخ "تاو" الأميركية وبالتالي تعتبر إلى حد كبير جزءاً من برنامج الدعم الأميركي غير العلني.وصفة للتقسيم إن قلب السياسة المتبعة لدعم نظام الأسد ضد "داعش" لن تحل مشاكل واشنطن؛ وناهيك عن نظرة الرأي العام السلبية جداً تجاه مساعدة رئيس، كان قد استخدم السلاح الكيميائي وصواريخ سكود ضد شعبه، يعاني نظام الأسد شللا ماليا وعسكريا وبالتالي هو ليس قادراً على استرجاع المناطق التي يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية" الآن وإحكام قبضته عليها. وباختصار، إن عودة بشار الأسد لوضعه السابق لن تكون عودة حاكم شرعي يعيد النظام لبلاده بل ستأتي في الأساس نتيجة وجود فيلق إيراني مؤلف من لاعبين أجانب يؤدون دوراً على مستوى الجهات الحكومية الفرعية، وبالتالي فإن الجزء القتالي من مسعى طهران لتغيير "الهلال الخصيب" بشكل جذري هو أمر ستستمر القوى السنية في المنطقة بمعارضته وبشكل خاص تركيا ودول الخليج العربي.وكانت حملة إيران في سورية ستبدو منطقية أكثر لو لم يلعب التوزيع الطائفي للسكان دوراً سلبيّاً ضدها للغاية، فالنسيج السوري يتألف بنسبة 75 في المئة من العرب السنّة، وهي نسبة تصح في كل أنحاء الشرق الأوسط تقريباً باستثناء إيران، كما أن المناطق الريفية التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" في سورية والعراق تتألف من السنة بنسبة عالية تصل إلى 95 في المئة، وتشير هذه النسب إلى أن إيران لن تتمكن من إخضاع السنّة من خلال العنف، لا بل قد تجد نفسها في النهاية منخرطة في نزاع مهلِك وصفه العديد بالفعل بأنه "فيتنام إيران".حل مستدامعلى الرغم من أنه ليس من المحتمل أن يفرز هذا التوجه "انتصاراً للنظام" فإنه قد يدفع الأسد ورعاته الإيرانيين إلى التركيز على الأجزاء التابعة لهم من سورية الصغرى والالتزام بمعاهدة عدم اعتداء تأتي بحكم الأمر الواقع مع الجهاديين، وقد يساعد ذلك على تجنب سيناريو "فيتنام إيران"، لكنه قد يؤدي إلى أسوأ السيناريوهات بالنسبة الى الولايات المتحدة وحلفائها، وهو تشبث كل من الأسد وتنظيم "الدولة الإسلامية" بأراضيهما ربما بشكل نهائي. ولتجنب هذا السيناريو والسعي إلى تحقيق المصالح الأمنية الأميركية في سورية بشكلٍ أفضل، على واشنطن اعتماد المقاربة التالية:1- التقبل أن سورية ستبقى دولة مقسمة وفاشلة طالما يُسمح للأسد بالبقاء في السلطة، بما يشبه وضع صدام حسين في التسعينيات حين كلفت سياسات النظام هذا الأخير سيطرته على الشمال الكردي، لكن خلافاً لهذا السيناريو، سيشكل استمرار وجود الأسد نقطة جذب قوية للجهاديين ومحركاً رئيسيّاً للتوتر السنّي الشيعي.2- لا ينبغي تخفيف الضغط على الأسد، فعوضاً عن السماح للنظام بتعزيز قوته، على واشنطن إضعاف كل من الأسد و"داعش" من خلال تشجيع الصراع بينهما لإضعاف القوات الإيرانية الأجنبية والجهاديين في الوقت نفسه. وكثيراً ما يتفاخر الأسد بمحاربة الإرهاب؛ لذا يجب على الولايات المتحدة ترك الأمر على عاتقه وإلقاء مسؤولية تنظيم "الدولة الإسلامية" على الرئيس السوري مما سيضعفه ويضعف القوى الإيرانية في النهاية، وتشمل المسائل الرئيسة التي على واشنطن أخذها في الاعتبار: متى تصعِّد الضربات الجوية أو تخفِّف منها ليس ضد "داعش" فحسب، بل أيضاً ضد قوات النظام، لاسيما إذا نفّذ الأسد التهديد الذي أطلقه في 20 يناير حين قال لمجلة "فورين أفيرز" بأن النظام سيهاجم أياً من قوات المعارضة المعتدلة المدربة من الولايات المتحدة التي تدخل سورية، عندها فقط ستشعر دمشق وطهران بالضغط لتقديم تنازلات كبيرة.3- التركيز على مساعدة المعارضة المعتدلة على رص صفوفها ضد الجهاديين والنظام على حد سواء، بالإضافة إلى زيادة المساعدات الإنسانية بشكل بارز للنازحين وبذل مجهود أكبر بكثير لحماية المدنيين. بالطبع لا يمكن للولايات المتحدة أن تنظم وتقود المعارضة كلها، لكن يمكنها أن تدعم أي فصيل يسيطر على مناطق استعادتها من يد تنظيم "الدولة الإسلامية"، وإن الطريقة الوحيدة لتحفيز الثوار على القيام بذلك هي تقديم الدعم العلني لموقفهم المبرر ضد بقاء الأسد في السلطة.4- تطوير استراتيجية لإسقاط الأسد بالطرق الدبلوماسية وإرسال المعلومات والقوة العسكرية-الاقتصادية، فكلما طال بقاؤه طال الانقسام في سورية، وحين يتم التخلص من الأسد سيصبح من الممكن لملمة شمل سورية من جديد.* أندرو جيه. تابلر