إذا كانت قد انتهت مشكلة اليمن فماذا بعد؟! وإنْ هي لم تنتهِ فأيضاً ماذا بعد؟ ثم في الحالتين، من هو المنتصر ومن هو المهزوم؟! والحقيقة أن مشاكل هذا البلد العربي مثلها مثل تضاريسه، فهناك جبال شاهقة تعانق غيوم السماء وهناك أودية سحيقة تلامس أمعاء الأرض... هذا البلد الذي بقي عصيَّاً على الأتراك ودولتهم العثمانية أكثر من أربعة قرون متلاحقة، وهذا البلد الذي دار حوله البريطانيون واستوطنوا عدن واستعمروها 128 عاماً لم يستطيعوا دخوله، وهذا البلد الذي ذهب إليه جمال عبدالناصر بجيوشه شامخ الرأس وعاد منحني الظهر يظنه الناظر إليه عن بُعد سهلاً وبلا ألغاز، وعندما يقترب منه يكتشف أنه يحتاج ربما إلى ألف عام حتى يعرف عن كُلِّه شيئاً!

Ad

ربما يستغرب مَن يقترب من اليمن حتى يلامس أسراره أنّ المتحاربين فيه يصِف بعضهم بعضاً بـ "الإخوة" وأنَّ عبد ربه منصور هادي عندما سيعود قريباً قد يجد أن عبدالملك الحوثي على رأس مستقبليه، وأن علي عبدالله صالح في انتظاره على أحرّ من الجمر، وأن الذين طاردوه وهو في طريقه من صنعاء إلى عدن بعد خروجه وفراره، بمعجزةٍ ستكشف الأيام المقبلة أسرارها، أصبحوا حراسه الذين يفدونه بأرواحهم!

بعد مذبحة المكتب السياسي في عام 1986 كنت في صنعاء، التي لجأ إليها علي ناصر محمد ومعه عبد ربه منصور هادي، وقد نَقل إليَّ قائد فلسطيني كبير هو صلاح خلف (أبو إياد) رحمه الله أنَّ هذا الرئيس السابق كان يصف عبدالفتاح إسماعيل وباقي الذين تمت تصفيتهم ومزق الرصاص أجسادهم بـ"الرفاق"، وكان يصف علي سالم البيض الذي انقلب عليه بـ"الرفيق المناضل"... ثم وحتى في اليمن الشمالي أو في شمالي اليمن فإنني كنت أعجب وأتعجب عندما أسمع المختلفين سياسياً حتى التناحر يخاطب بعضهم بعضاً بمفردات رقيقة، وسمعت البعثي يتحدث عن "الإخواني" وكأنهما في تنظيم واحد وعن "الناصري" كأنه لم يكن بين حزبهم وجمال عبدالناصر ما صنع الحداد!

قبل أن تضع "عاصفة الحزم" أوزارها، التي لا يمكن الجزم بما إذا كانت هذه الحرب قد انتهت ووضعت أوزارها أم لا، وما إذا كنا سنفاجأ بحرب ضروس أكثر من سابقتها قوة وأشد منها أهوالاً، أُبلغت أن "الرفيق" قاسم سلَّام، عضو القيادة القومية لحزب البعث (العراقي) سابقاً ولاحقاً، والأمين القطري لهذا الحزب، والذي كان لا يكل ولا يمل من الادعاء بأنه صديق صدام حسين وأقرب المقربين إليه، قد انتقل من دائرة تحالفات حزبه، الذي أيد "عاصفة الحزم" ولم يكف عن التباهي بإنجازاتها، إلى دائرة الحوثيين و"أنصار الله" الذين يعتبرون الأكثر التصاقاً بإيران والأكثر عداء للتوجهات القومية والعروبة.

عرفت قاسم سلام في بدايات سبعينيات القرن الماضي، كان هو طالباً مبتدئاً في "بيروجيا" الإيطالية، وكنت أنا في زيارة تفقدية، هي مهمة سياسية في حقيقة الأمر، للطلاب الأردنيين باعتباري كنت رئيس الاتحاد العام لطلبة الأردن، بعد ذلك اللقاء لم أره إلَّا بعد أكثر من عشرين عاماً وفي صنعاء... لقد أصبح عضو قيادة قومية عند صدام حسين، وأصبح أباً لعائلة جميلة أكبرها حكيم الذي هو الآن جنرال كبير في الجيش الأميركي كما قرأت وكما علمت... وقاسم متزوج من أميركية محترمة جميلة تتحدث اللغة العربية بصعوبة وبلهجة يمنية محببة تضطر المستمع إلى الابتسام حتى القهقهة.

يومها استضافني الجنرال مجاهد أبو شوارب، رحمه الله، وخلال أحاديثنا الطويلة شعرت أنه لم يكن على وفاقٍ مع قاسم سلام، وذلك مع أن خلفيته بعثية وأنه خريج الكلية الحربية العراقية، ولا أعرف متى كان ذلك وفي أي عهد، لكنه كان يتحدث عن هذا الرجل باحترام شديد وبكلمات دافئة منتقاة... إنَّ هؤلاء هم اليمنيون، وأذْكر عندما كنت "طالباً" في الخارج أن الطلبة اليمنيين كانوا يتميزون على الآخرين بأنهم يختلفون سياسياً لكنهم يستمرون في العيش معاً، بحيث يكون من غير الممكن معرفة الشمالي من الجنوبي، فكلهم يمنيون وكلهم يتمسكون بـ"وحدة التراب اليمني" وكلهم يعتبرون صنعاء عاصمتهم وكلهم يتقاسمون لقمة الخبز وصحن شوربة "السَّلْته" التي هي من أطيب وأشهى ما أكلته في حياتي، لا في اليمن فقط، بل أيضاً في الأردن وفي دنيا الله الواسعة.