{ملوك وآلهة}
المتابع لما يجري على الساحة الثقافية في مصر يكاد يتصوَّر أن ثمة تبادلاً للأدوار بين وزارة الثقافة ومؤسسات أخرى، يقوم طرف، بمقتضاه، بإعلان اعتراضه، في خطوة استباقية، على الترخيص بعرض فيلم ما في الصالات التجارية، في حين يكتفي الطرف الثاني بتسجيل اعتراضه وتحفظه على الملأ، أو يصمت في أضعف الإيمان. ومن ثم يُثار جدل، لا يخلو من ضجيج متعمد، يُفضي في النهاية إلى تمرير قرار حظر ومصادرة الفيلم السينمائي!حدث هذا الأمر تحديداً في واقعة فيلم «حلاوة روح»، الذي اتخذ د. إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء قراراً منفرداً بحظر عرضه ثم تبين أنه لم يُشاهد الفيلم، وأنه اتخذ القرار بتحريض من الجماعات السلفية، التي التزمت الصمت. وتكرَّر الأمر بصورة أخرى مع الفيلم الأميركي «نوح» إخراج دارين أرنوفسكي وبطولة راسل كرو، إذ وافقت الإدارة المركزية للرقابة على المصنفات السمعية والبصرية على عرضه في مصر، رغم رفض الأزهر الشريف، وفي ما يُشبه التحدي أعلن د. جابر عصفور وزير الثقافة أنه ينحاز إلى عرض الفيلم، وقال لمقدم برنامج «نظرة» على القناة الفضائية «صدى البلد»، إنه لو كان وزيراً للثقافة وقت أزمة فيلم «نوح» لعرضه من دون الرجوع إلى الأزهر، وطالب بضرورة «تحديث النظرة الجديدة وفقاً للعصر الحالي ومتطلباته». ورغم الضجة، والاتهامات المتبادلة، التي اندلعت بسبب تصريحات «عصفور» إلا أن «نوح» لم ير النور، باتفاق الطرفين!
اليوم تبدو الساحة مشغولة بأزمة فيلم «الخروج: آلهة وملوك» للمخرج ريدلي سكوت، الذي منعت وزارة الثقافة، والرقابة، عرضه في مصر، ولم يخل تصريح لوزير الثقافة من التأكيد على أن «الأزهر لم يكن طرفاً في هذه القضية، وليست له علاقة من قريب أو بعيد بمنع الفيلم». كذلك أوضحت الوزارة، في بيان لها، أن الفيلم لم يُعرض على أي مختص من مشيخة الأزهر الشريف، وسواء أكان هذا صحيحاً أم لا فإن الفيلم مُنع من العرض، وتحقق الغرض! «لعبة تبادل الأدوار»، وإيهام الرأي العام بأن ثمة خلافات وتناقضات في الرؤى، أسفرت عن حظر ثلاثة أفلام في فترة وجيزة للغاية، ولولا الحكم الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري في مجلس الدولة بوقف تنفيذ قرار رئيس مجلس الوزراء الذي نصَّ على وقف عرض فيلم «حلاوة روح»، وإعادته إلى دور العرض، لنجح مخطط القمع والمصادرة؛ خصوصاً أن واقعة منع عرض «الخروج: آلهة وملوك» كشفت عن مفاجآت مثيرة، على رأسها أن وزارة الثقافة هي التي منحت الشركة المنتجة للفيلم التصاريح الرسمية التي تخول لها تصوير بعض المشاهد في مصر، وأن كمال عبد العزيز الرئيس السابق للمركز القومي للسينما التابع لوزارة الثقافة حصل بنفسه على موافقة الرقابة، وأكد يومها أن «موافقة الأزهر لا تعنيه»، وتسابقت الصحف، بعدها، إلى الإشادة بتواجد مخرج بمكانة وأهمية ريدلي سكوت في مصر، وامتداح السياسة الجديدة للدولة التي أسهمت في تسهيل إجراءات تصوير الأفلام الأجنبية، وفتحت الباب الذي كان موصداً لسنوات طويلة في وجه شركات الإنتاج العالمية، قبل أن يعود كل شيء إلى نقطة الصفر، عقب قرار حظر عرض الفيلم في مصر، واتهام شركة الخدمات الإنتاجية المصرية المسؤولة عن تسهيل تصوير مشاهده في مصر، بتورطها في «عملية تمويه وخداع متعمدة»، بعد قيامها بإخفاء المعلومات الحقيقية عن طبيعة وقصة وسيناريو وحوار الفيلم، وقيامها بتصوير المشاهد الحقيقية «خلسة»، وهي المزاعم التي روجت لها الوزارة أملاً في التستر على أخطاء أجهزتها، وحماية قياداتها. لكنها قضت، من دون أن تدري، على آخر بارقة أمل في الانتصار لحرية التعبير والإبداع على حساب القمع والمنع والمصادرة.العجيب أن وزارة الثقافة بررت قرار المصادرة بأن «بصمات الصهيونية العالمية تركت آثارها على الفيلم»، بينما لم تحرك ساكناً يوم أجازت الرقابة في العام 2004 عرض فيلم «آلام المسيح» إخراج ميل غيبسون في مصر، رغم اعتراض الكنيسة القبطية والأزهر الشريف. بل إن د. جابر عصفور كشف، في مقالة له، أنه يقف وراء هذا العرض بحكم مسؤوليته، وهو ما دفع البعض إلى القول إن وزارة الثقافة تنتفض غاضبة عندما يتعلّق الأمر فقط بأفكار مغلوطة تمس العقيدة اليهودية!المفارقة الأكثر إثارة أن الرقابة شكَّلت لجنة ثلاثية قدمت تقريراً ضد «الخروج: آلهة وملوك» ثم شكَّل وزير الثقافة لجنة أخرى وصفها بأنها «علمية خارجية» ضمَّت أمين المجلس الأعلى للثقافة ورئيس الرقابة بالإضافة إلى اثنين من أساتذة الآثار المصرية، وجاء تقريرها مطابقاً، كما قيل، لتقرير لجنة الرقباء، وأوصى بعدم عرض الفيلم نهائياً. ولكن لأسباب لا يعلمها أحد جرى التعتيم على اسمي الأستاذين المتخصصين في الآثار المصرية، وكأنه «سر حربي»!