شعرُ ما بعد الحداثة الانكليزي تيار طليعي وتجريبي. وهو، شأن كل التيارات الطليعية والتجريبية في الأدب، يبدأ بفعل عوامل محيطة تشكل الثروة والازدهار المادي أحد أهم دوافعها، الأمر الذي يذكرنا بفورة تيار «الفن من أجل الفن» الذي شاع في المرحلة الأخيرة من الفترة الفيكتورية (1880-1900) المزدهرة فنياً. إن السبعينيات من القرن الماضي، التي شهدت محاولات أدب ما بعد الحداثة أو «أدب اللغة» إنما جاءت على اثر مرحلة يقظة اقتصادية وصناعية عرفتها بريطانيا بعد أزمة السويس.

Ad

إن أول علامات الحركة الشعرية المترفة هذه هو انشغالها بموضوع اللغة. وأصبح النص الشعري يقرن، من حيث التأثير، بالفيلم السينمائي والتلفزيون، لأنه نتاج تزاوج بين ما هو بصري وما هو قاموسي، متوسلا بالكولاج حينا، وحينا بفن الطباعة وصف الأحرف، وينتفع أحياناً أخرى من تقنيات الطابعة اليدوية منصرفاً إلى الشكل البصري دون الالتفات إلى المعنى. ويتجاوز هذا إلى جهاز الكاسيت ليشكل النص «قصيدة الصوت». أجهزة السبعينيات من القرن الماضي هذه سرعان ما تلاشى تأثيرها، بفعل التطورات في الصناعة والتقنية.

النظريات النقدية ساهمت في تشغيل ماكينة «أدب اللغة» هذا إلى أقصاها، وإثارة مزيد من فورات الخروج عن «اللغة» الواقعية، واللغة الوسيلة من أجل تحرير البراعات اللفظية الكامنة فيها. «النقد التفكيكي» الذي طرحه المفكر الفرنسي جاك دريدا كان معززاً نظرياً لهذا التيار. فهو يرفض فكرةَ المعنى المحدد أو الرسالة المحددة للنص الشعري. ذلك المعنى الذي يصدره الشاعر حول الواقع الخارجي إلى القارئ.

    بدأت الحركة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي كحدث غير ملحوظ تقريباً داخل حركة ما بعد الحداثة الواسعة. ثم نشطت في الثمانينيات من القرن الماضي. ولعلها في نهاية هذا العقد فقط استطاعت أن تحظى بإدراك وفهم واسعين، من الناحية العملية والنظرية.

  إن شعر ما بعد الحداثة هو شعر جملة جديدة، جملة ذهنية تربطها بالنثر النقدي والفلسفي أكثر من وسيلة. وهذه الجملة لا هوية لها محددة مسبقا. فأنت أحيانا قد يستعصي عليك الحكم على نص لا تجده ينتسب إلى النثر، او الشعر، أو النقد. ومن هنا تتأتى صعوبته. وهي صعوبة لا تشفع لها الشروح والهوامش لأنها من صلب تكوين الجملة التي قد تُبنى على الفوضى النحوية عن قصد.

 كان لهذا التيار مجموعة كبيرة من الشعراء ينتسبون إلى أجيال متقاربة في انكلترا وأميركا. وأصواتهم، كما يبدو، لم تكن على صلة وثيقة بالمناخ الشعري الشائع. ولذلك فهي أصوات ليست معروفة بالصورة التي تطمّعُها بالشهرة. من تلك الأصوات سوزان هاو، التي تبدأ إحدى قصائدها بتقنية مطبعية، تضع بعض السطور داخل النص مقلوبة بحيث تستدعي القراءة أن تقلب الصفحة كاملة. ومع هذا فأنت في النهاية لا تقع إلا على جمل مبتورة:

توقفَ عن الالتصاق بي/ إنه لم يترك الأرض/ مشهد التعرف

تلك أفكار/ هذه ليست هدفاً ... الخ

بوب بيريلمان تتحكم بقصيدته تركيبة رياضية وهندسية في توزيع المفردات، فيكون الشيء البصري والمسموع عنصريْ القصيدة الأساسيين، ويكون الإدهاش وحده هو الثمرة:

«مالكاً/ مالكا ذلك/ مالكا ذلك/ مالكا ذلك الذي فقدانه

مالكا ذلك الذي فقدانه سيثأر له

مالكا ذلك الذي فقدانه سيثأر له من قبل تاريخ متواصل ...»

توم ماندل يكتب عن ما هو مرئي:

«بدون ضوء لا شيء مرئي

بدون وسيط شفاف لا شيء مرئي، ولا شيء غير محدود مرئي أيضا

بدون لون لا شيء مرئي/ لا شيء مرئي إلا من بعيد

وبدون وسيلة لا شيء مرئي...».

لاشك أن هذا التيار لم يخرج بغتة من عدم، فالروح الطليعية كانت لصيقة بحركة الحداثة منذ عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته. كما أنها أخذت أشكالا عدة في داخل التجريبية وداخل تيار الخروج الإدهاشي عن أي معنى، ودوره منطقي داخل هارموني الحركة المعقدة التي تعيشها الحياة الغربية. ولكن ما الذي بقي اليوم من هذه الفورة اللصيقة بالترف الاقتصادي؟