لماذا فعل ذلك؟ أي روح شريرة تلبست رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين "بيبي" نتنياهو فحملته على قبول الدعوة من الجمهوريين في الكونغرس الأميركي للحضور ومهاجمة سياسة الرئيس باراك أوباما في التعامل مع إيران من دون حتى إبلاغ البيت الأبيض؟

Ad

يدّعي نتنياهو أن زيارته كانت "مهمة مصيرية، بل حتى تاريخية" للإعراب عن مخاوفه فيما يتعلق بمصير إسرائيل واليهود، بيد أننا كنا على علم بمخاوفه بالفعل، ونعلم أن العديد من اليهود في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم لا يشعرون أنه كان يتحدث باسمهم.

تُرى هل كان نتنياهو في شوق إلى سماع تصفيق أنصاره الجمهوريين؟ هل يراهن على فرصة فوز الجمهوريين بالرئاسة في عام 2016؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد نال ما يكفيه من التصفيق؛ ولكن من الواضح في ضوء استطلاعات الرأي الحالية أن الدافع الأخير مقامرة كبرى.

أم كان نتنياهو يستخدم الكونغرس الأميركي ببساطة كمسرح لحملته الخاصة للحفاظ على وظيفته؟ هل كان راغباً في التأثير على الناخبين في الديار بلعب دور البطولة على مسرح عالمي؟

هذا أيضاً يبدو كمقامرة كبرى: ولكن العديد من الإسرائيليين، رغم خشيتهم أن يكونوا بصدد مواجهة قنبلة نووية إيرانية، انتقدوا بشدة استفزاز نتنياهو للرئيس أوباما، والعديد من الديمقراطيين اليهود، وانضم اثنان من مديري الموساد السابقين إلى جوقة من الإسرائيليين في الاحتجاج بأنه لا ينبغي له أن يظل رئيساً للوزراء، وذهب مائير داجان، الذي استقال من منصبه كرئيس للاستخبارات الإسرائيلية في عام 2011، إلى وصف استعراض بيبي المؤثر في واشنطن بأنه "مدمر لمستقبل إسرائيل وأمنها".

أياً كانت دوافعه فإن نتنياهو حقق ما لم يتمكن أي زعيم إسرائيلي آخر من تحقيقه: فهو لم يكتف باستثارة غضب الرئيس الأميركي (الذي كان غاضباً عليه بالفعل)، بل إنه يكسب أيضاً السخط الشعبي من أناس كانوا يدعمون أي زعيم إسرائيلي عادة، أياً كان تصورهم الشخصي له، وإذا لم يكن بوسع رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يعتمد حتى على دعم رجل مثل أبراهام فوكسمان، المدير الوطني لرابطة مكافحة التشهير، فهو في ورطة أكيدة.

ومن خلال إجبار الأميركيين- وليس اليهود أو الديمقراطيين فقط- على الاختيار بين ولائهم لإسرائيل ورئيس بلدهم، أحدث نتنياهو خرقاً ضخماً في الدعم المعتاد من الحزبين الأميركيين الرئيسيين لإسرائيل، ولا يعني هذا أن السياسة الأميركية كانت دوماً متفقة مع السياسات الإسرائيلية، ولكن قليلين هم من تصوروا أن الأمر يستحق التعبير عن انتقاداتهم علنا، فالفوائد المترتبة على ذلك نادراً ما تفوق التكاليف: خسارة المساهمات الانتخابية، والاتهامات بمعاداة السامية، والاتهامات بخيانة حليف مقرب ("الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط")، وما إلى ذلك.

وحقيقة أن إسرائيل تستطيع دوماً أن تعتمد على دعم الولايات المتحدة، وخصوصا في مثل هذه المناسبات العامة مثل إلقاء زعيم إسرائيلي لخطاب في الكونغرس، كانت تؤكد فقط على افتراض لدى كثيرين في مختلف أنحاء العالم مفاده أن إسرائيل والولايات المتحدة مرتبطتان على نحو أشبه بالتوأم الملتصق. ويتصور البعض أن إسرائيل هي مخلب الولايات المتحدة؛ ويعتقد آخرون أن العكس هو الصحيح، واستناداً إلى التزوير القيصري السيئ السمعة في القرن التاسع عشر، "بروتوكولات حكماء صهيون"، يعتقد المعادون للسامية أن "اليهود" يديرون حكومة الولايات المتحدة، ووول ستريت، ووسائل الإعلام.

بطبيعة الحال، كانت هذه المعتقدات شائعة لفترة أطول كثيراً من عمر دولة إسرائيل الحديثة، فكان القوميون الأوروبيون في القرنين التاسع عشر والعشرين ينظرون إلى الولايات المتحدة عادة باعتبارها الموطن الطبيعي للرأسماليين و"أنصار العالمية الذين هم بلا جذور" والذين لا يدينون بأي ولاء لأوطانهم الأصلية، فالحاكم الوحيد في أميركا وفقاً لهذا التصور هو المال، وهذا يعني أن اليهود هم من يحكمون.

ورغم أن ستالين هو الذي استخدم عبارة "أنصار العالمية الذين هم بلا جذور" لوصف اليهود غير المرغوب فيهم، فإن من يعادون السامية يعتقدون أن اليهود بلاشفة أصليون، وأنهم ربما كانوا يمسكون بالخيوط في الاتحاد السوفياتي أيضا، وكان من المفترض على نطاق واسع أن اليهود، سواء كانوا رأسماليين أو شيوعيين، لا يعرفون أي ولاء سوى لشعبهم؛ وبعد عام 1948، بات ذلك يعني على نحو متزايد دولة إسرائيل، وعندما يزعم نتنياهو أنه زعيم كل الشعب اليهودي، أينما كانوا، فإنه بذلك يعزز هذه الفكرة.

الواقع أن الولايات المتحدة لم تكن دوماً مؤيدة لإسرائيل كما هي اليوم، كان الفرنسيون هم أكبر مؤيدي إسرائيل إلى أن تحول الرئيس شارل ديغول بعيداً عن الدولة اليهودية بعد حرب الأيام الستة في 1967، وكانت رعاية أميركا اللاحقة لإسرائيل أقل ارتباطاً بالعاطفة الإنجيلية للأرض المقدسة، أو الحب العفوي للشعب اليهودي، من ارتباطها بالحرب الباردة. ولكن بمرور الوقت، وخصوصا في الخطاب السياسي المحافظ، أصبح توجيه الانتقادات إلى إسرائيل يُنظَر إليه على نحو متزايد ليس باعتباره معادياً للسامية فحسب بل أيضاً معادياً لأميركا.

وهناك بعض الحقيقة في هذه النظرة، ذلك أن الأسطورة القديمة المعادية للسامية حول إدارة اليهود لأميركا لم تختف تماما، وخصوصا (ولكن ليس فقط بأي حال من الأحوال) في الشرق الأوسط، ولكن الربط شبه التلقائي في واشنطن بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح إسرائيل جعل من الصعب انتقاد أي من البلدين من دون انتقاد الآخر.

الآن، من خلال السعي علناً إلى تقويض الرئيس الأميركي، يكسر نتنياهو هذا الارتباط، فقد سهل على اليهود الأميركيين، حتى أولئك الذين يشعرون بقدر عميق من التفاني في خدمة إسرائيل، أن ينتقدوا قادتها، وهذا أيضاً من شأنه أن يجعل معارضة الساسة الأميركيين للسياسة الإسرائيلية التي يختلفون معها أقل تكلفة.

قد يرى البعض في هذا هزيمة لإسرائيل، بل إن العكس قد يكون هو الصحيح، فالواقع أن رحلة بيبي غير المدروسة إلى واشنطن قد تكون أفضل ما حدث لإسرائيل، فليس من مصلحة أي من البلدين أن يُنظَر إليه باعتباره ألعوبة في يد الآخر، واتخاذ موقف أميركي أكثر صرامة في التعامل مع حليفتها قد يجبر الإسرائيليين على بذل قدر أكبر من الجهد للتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين.

لم يكن هذا مقصد نتنياهو، ولكن قد يتبين في نهاية المطاف أن هذا هو أعظم إنجازاته.

* إيان بوروما | Ian Buruma ، أستاذ الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والصحافة في بارد كوليج، وهو مؤلف كتاب "العام صِفر: تاريخ من 1945".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»