احتفى الوسط الثقافي المصري بحلول الذكرى الثالثة لرحيل الكاتب خيري شلبي الذي مثل اتجاهاً جديداً ومختلفاً في الرواية العربية عموماً والمصرية خصوصاً، وألهم جيلاً جديداً من روائيين شباب، وخرج بعضهم بتجارب ثرية. فماذا يحملون له في ذكراه وماذا قالوا عنه؟

Ad

الروائي الشاب طارق إمام، الذي يعتبر أن خيري شلبي أباه الروحي، يحكي عن لقائهما الأول عندما كان في الثامنة عشرة من عمره عقب صدور مجموعته الأولى «طيور جديدة لم يفسدها الهواء»، واصطحب آنذاك عدداً من نسخها معه إلى مؤتمر أدباء مصر في السويس حيث التقى شلبي. يشير إلى أنه اقترب منه ليمنحه نسخة من المجموعة موقناً أنه لن يقرأها، كعادة الروائيين الكبار،ـ ثم انصرف تاركاً إياه في قلب زحام محبيه ومريديه وهم كثر.

يقول إمام: «أن تكون مجموعتي الأولى بين يديه كان نصراً بالنسبة إلي حتى إن كان لن يقرأها. غير أن المفاجأة المذهلة كانت في اليوم التالي مباشرة، فقد رآني ونادى علي، واصطحبني إلى مقهى بعيد حيث جلسنا، ثم أخرج مجموعتي من حقيبة يده، معروقة من آثار يديه، وإنداح الرجل في الكلام عن الكتاب.. ووصفني بأوصاف أرتجف حتى الآن كلما تذكرتها».

يتعجب إمام: «كيف يقول لي عم خيري هذا الكلام وأنا أقرأ آراءه الحادة التي لا تعرف التذويق، تصيب بسهامها كتاباً مشاهير ومدعي أدب لامعين وراغبين في الوجود، يوجه لهم نقده الصريح ببساطة وعمق ويتركهم في ضلالاتهم غير عابئ! ويتابع: «ناقش المجموعة بعد ذلك وتجشم عناء السفر من القاهرة إلى دمنهور ليتحدث عن الكتاب وعني. ما زلت أحتفظ بشرائط تسجل وقائع الندوة الكبيرة التي وضعتني بشكل حقيقي في قلب خارطة الأدب».

يقول إمام: «خيري شلبي أحد كتاب كبار قليلين جداً أفلتوا من فخ تقديس الذات، والعيش في أبراج عاجية وبملابس كهنوتية تخفي تعالياً أصماً... فعم خيري أفلت من وهم البحث عن تلامذة وأتباع وحواريين فصار له تلامذة وأتباع من محبيه... فهو مبدع يشبه ما يكتب وأعتقد أنك لو وضعت روايات خيري شلبي متجاورة ونظرت إليها من مسافة آمنة، فسترى وجه شلبي بملامحه وتفاصيله».

أما الروائي باسم شرف فيروي لنا علاقة الصداقة التي جمعته بالكاتب الراحل وأهم ما تعلمه على يديه: «استيقظت مبكراً ذات يوم على سماع خبر وفاته. وكلما سمعت الخبر كنت أهرب منه كي لا أصدق أنه مات فعلاً، فأغلقت هاتفي وسحبت كتاباً موقعاً بخط يده وجلست في الشرفة، ورحت أنظر إلى الإهداء فوجدت نفسي متلبساً في البكاء... فهل مات عم خيري حقاً؟ فأنا لا أبكي إلا لأمر قاس وما أقسى فراقك أيها الحكاء الأعظم. أتذكر مكانه في مكتب دار ميريت على الكرسي المخصص الذي لا يجلس فيه سواه وقت حضوره ويحكي من دون ملل».

يتذكر باسم: «كان العم خيري يعرف الحكاية كما يعرف نفسه فكان تلقائياً يشير إلى تفاصيل في شخصية كأنه يحكي عن طفولته. صادفني الحظ أن التقيته في دولة الإمارات في معرض أبوظبي. ولما قابلنا أنا ومحمد هاشم صاحب دار ميريت، قال لي: لازم تزوروني في الفندق... فأحبته: يا عم خيري أنت تعبت من السفر وعايز تستريح، فرد: هستريح لما أروح مصر. كان هذا اللقاء بالنسبة إليَّ كنزاً كي أسأله عن أمور كثيرة تشغلني في الكتابة وعنه هو شخصياً».

كان السؤال الأول الذي وجهه باسم شرف إلى شلبي كما يروي لنا: من أين تأتي بهذه الطاقة الكبيرة في الكتابة والإنتاج الأدبي، فرد ضاحكاً: «أكتب في الأساس لأني أبحث عن سر». قلت له: أي سر يا عم خيري؟ فقال: «لو عرفته سأتوقف عن الكتابة. في داخل الناس من حولك حكايات وأسرار ستجد فيها فلسفة خاصة. فالفلسفة ليست عند المثقفين فحسب».

 يقول شرف: {كان العم خيري يهرب من الموت عبر الحياة داخل الموت. يذهب ليعيش إلى جوار الموتى، فهروبه ليس خوفاً ولكنه لقاء حبيبين. لم يخش الموت يوماً. كان يطمئن له وكأن لديه مع الموت علاقة وثيقة، فلن يغدر به من دون أن يخبره حتى يكتمل مشروعه}. ويشير إلى أنه سأل ذات مرة الكاتب الراحل: لماذا لم تكتب سيرتك الذاتية حتى الآن فرد عليه: {الكاتب الذي يبحث عن كتابة سيرته الذاتية يفتش عن موته}. ويوضح شرف أن آخر ما كتبه العم خيري كانت سيرته الذاتية، {فلم انتبه إلى أنه يبعث برسالة موته إلينا جميعاً ولم نلحظ هذه العلامة إلا عند وفاته. وكتبها في العنوان {أنس الحبايب}، لأنه فعلاً لم يقابل شخصاً وكرهه. كان يعيش الحياة كما هي، يحبها بقلب طفل عاش في قريته وينزل للمرة الأولى ليرى المدينة. فكان طوال حياته يكتشف الأماكن والأشخاص ويكتبهما عله يعرفهما جيداً... وكلما زين اسمه غلاف كتاب كلما تعرفت إلى أنماط جديدة أنت رأيتها.. وهو شعر بها وكتبها}.

الناقد الأدبي سيد ضيف الله يرى أن لخيري شلبي بصمة متميزة جداً في الرواية المصرية باعتباره ويحيى الطاهر عبدالله ومحمد مستجاب يمثلون تياراً مختلفاً عن السائد في كتابة الرواية العربية، فهؤلاء الثلاثة يستفيدون في كتاباتهم من الحكي الشعبي وآليات الحكي الشفاهي بشكل خاص، وخيري شلبي يأتي على رأس هذا التيار لأنه غاص في المجتمع المصري وقدمه بشكل لافت عبر إدراكه طبيعة الشخصية المصرية ومستوياتها. وضرب المثل بـ {وكالة عطية} التي يعتبرها إحدى أهم الرويات المصرية التي قدمت عالم الهامش:{لو كتب شلبي هذا العمل فقط، لكان كافياً ليصبح أحد رموز الرواية العربية بشكل خاص}.

يقول ضيف الله: {خيري شلبي شرب من الحارة والتربة المصرية بطريقة مختلفة عن شرب نجيب محفوظ ابن الطبقة المتوسطة، فشلبي ابن الطبقة الشعبية الذي بدأ من أول السلم الاجتماعي حتى عرف بقية طبقات المجتمع. لديه ميزة مختلفة في السرد في تاريخ هذه الطبقة المهمشة، معتبراً أنه أهم كاتب مصري استطاع أن يكتب عن الهامش الاجتماعي}، فطريقته ليس فيها أي ادعاء أو تعال ولم ينفصل عن عالمه المهمش. حتى بعدما وصل إلى قمة الرواية العربية لم ينقطع أيضاً عن الحارة وعن الهامش المصري الذي تربى في رحابه.