استئصال
مستريحاً في غرفة العمليات، قبل أن يبدأ المخدر مفعوله، قلتُ: "رحلة موفقة دكتور"، أجاب ضاحكاً: "آمل ذلك". رحلة الدكتور عبر الوريد، مع أنبوبٍ مزوّد بكاميرا دقيقة ومجسّةِ استئصال، إلى البطين الأيسر من القلب. هناك يتم البحث عن الندوب المولّدة لنبض القلب غير المنتظمِ واستئصالها، ويستغرق ثلاث ساعات أو أربعاً. ولكنها في زمن المخدر لا تتجاوز رمشةَ جفن. حين استيقظت كانت الغرفةُ نصفَ مضاءة، ووجهُ الممرضة يتأملني ويبتسم، استجابة لابتسامتي. إلى جانبها كان فم الدكتور يتحدث لي: "كانت رحلة موفقة تماماً". هذه عملية "استئصال" ثانية. الأولى أجريتها قبل خمس سنوات على ما أذكر. أما سرير المستشفى فأكثر من مألوف. وكذلك أوجهُ المرضى على الوسائد البيض، يبعث بي رضا كما تَنبعث الحكمةُ من الخبرة. أجناسٌ خليط من الأحياء التي بدت لي سهلةَ المكْسر، مستسلمة كما تستسلم أوراق خريف بالغة السحر لمجرى ماء بالغ الصفاء. أجناسٌ في ساعاتها النادرة، إذْ يُخْليها الاستسلامُ لمصائرها من كل طويّةٍ سيئة، كما تُخلي المصفاةُ الماء من الشوائب. في الردهة معي ثلاث سيدات على أسرّتهن: هندية، وبولندية وإنكليزية لعلها تجاوزت التسعين. وأغلب الممرضات من تايلند والصين. أربعة أحياء يتبادلون الصمت والابتسام كل حين. السيدةُ الإنكليزية التي تجاوزت التسعين، مع التهاب رئوي حاد، شغلت الردهةَ وطاقمَ التمريض بفعل مسٍّ من خرَفٍ، يوهمها بأنها في بيتها. وتتحدث مع الممرضات من علٍ، على هذا الأساس. وبفعل سعالها الذي لم ينقطع، لم أستطع النوم حتى الفجر. حاولت أن أشغل النفس بالقراءة في التلفون النقال الذي إلى جانبي. مددتُ أصابعي إليه فلم تبْلغْه أصابعي. بفعل الإرهاق صارت المسافاتُ بين الأشياء لا محدودة.
حين غادرني الدكتور، بعد زيارة خاطفة بشأن عملية الاستئصال، طاب لي أن أُسائل النفس إذا ما كان القلب الذي تحدث عنه هو موطن العواطف حقاً. عضلةٌ، يارجل! مجرد مضخة عضلية تتسلم أوامرَ نبضها من المخ، لتبعث الدم النقي إلى خلايا الجسد جميعاً. تبعثه، لتتسلمه، ثم لتبعثه فاسداً إلى الرئة للتنقية. هل كان أبو نواس يعنيه، حين أشار إلى "موطن الأسرار"؟ لقد أوقف الخمرةَ، حين دبَّ دبيبُها إليه، خشيةً من فضح أسراره. ولكن الإشارة لم تكن صريحة. ودبيبُ الخمرة يبلغ كل خلية في جسد الإنسان. ولذلك اقترح المفسرون الدِّماغ، إن لم يكن القلب. وهو أنسب موطن للأسرار، ومكمن للعواطف. ولكن ما العواطفُ؟ ما الأفكار؟ ما الذاكرة؟ وما المخيلة؟ رائحةُ الطعام تُقبل إليك، وقت الظهيرة، مشوبةً برائحة الأدوية والمعقمات. تماماً كما تُقبل القصيدةُ من حمّى العاطفة، الفكرة، الذاكرة والمخيلة مجتمعة. ابتسمتُ في وجه الممرضة التي تفحص ضغطَ الدم، لأن المقارنةَ بين رائحة الطعام الخليط، وخليطِ القصيدة أعجبتني تماماً. ورحت أكتب في داخلي رؤوس أقلام لفصل من كتاب في هذا الشأن. ولمْ أغفلْ أن أضع كلمة "جنون"، لكي لا أنسى. فالجنون إنما يحتلّ موقعه الخفي في عملية الخلق، لأنه كفيل بإرباك التواصل المنطقي والعقلي بين تلك العناصر. هذا الإرباك وحده الذي يسمح للعاطفة والفكرة والذاكرة والمخيلة بأن يخترق بعضُها بعضاً. السيدة الإنكليزية التي تجاوزت التسعين، لم تُفسد علينا نوم الليل وحده، بل يقظة النهار أيضاً. ولكن ظلت جلستُها المنحنية في سريرها مهيبةً، ولا تخلو من مسحة جمال. لا أعرف لم استحضرتُ هيئة "فرجينيا وولف". هل هو الخرفُ، التعالي أم النهاية الوشيكة؟ حين جاءتها الممرضة بصينية الطعام: طبق سمك مع البطاطا، عصير وحلوى، رفعت السيدة وجهها إليها قائلةً: هل لي بكأس نبيذ أحمر، رجاءً؟ أجابتها الممرضة بابتسامة حلوة: ولكننا في المستشفى لا نقدم نبيذاً مع الطعام. حنَت السيدةُ رأسها مهمهمة. حسدتها أنا على فيض الوهم هذا. كانت الشمس الشتائية تعرض المرضى على أسرتهم بحميمية من يعرض فراخاً في أعشاش. أيُّ ولعٍ هذا الذي يشدّني إليهم؟