استئصال
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
حين غادرني الدكتور، بعد زيارة خاطفة بشأن عملية الاستئصال، طاب لي أن أُسائل النفس إذا ما كان القلب الذي تحدث عنه هو موطن العواطف حقاً. عضلةٌ، يارجل! مجرد مضخة عضلية تتسلم أوامرَ نبضها من المخ، لتبعث الدم النقي إلى خلايا الجسد جميعاً. تبعثه، لتتسلمه، ثم لتبعثه فاسداً إلى الرئة للتنقية. هل كان أبو نواس يعنيه، حين أشار إلى "موطن الأسرار"؟ لقد أوقف الخمرةَ، حين دبَّ دبيبُها إليه، خشيةً من فضح أسراره. ولكن الإشارة لم تكن صريحة. ودبيبُ الخمرة يبلغ كل خلية في جسد الإنسان. ولذلك اقترح المفسرون الدِّماغ، إن لم يكن القلب. وهو أنسب موطن للأسرار، ومكمن للعواطف. ولكن ما العواطفُ؟ ما الأفكار؟ ما الذاكرة؟ وما المخيلة؟ رائحةُ الطعام تُقبل إليك، وقت الظهيرة، مشوبةً برائحة الأدوية والمعقمات. تماماً كما تُقبل القصيدةُ من حمّى العاطفة، الفكرة، الذاكرة والمخيلة مجتمعة. ابتسمتُ في وجه الممرضة التي تفحص ضغطَ الدم، لأن المقارنةَ بين رائحة الطعام الخليط، وخليطِ القصيدة أعجبتني تماماً. ورحت أكتب في داخلي رؤوس أقلام لفصل من كتاب في هذا الشأن. ولمْ أغفلْ أن أضع كلمة "جنون"، لكي لا أنسى. فالجنون إنما يحتلّ موقعه الخفي في عملية الخلق، لأنه كفيل بإرباك التواصل المنطقي والعقلي بين تلك العناصر. هذا الإرباك وحده الذي يسمح للعاطفة والفكرة والذاكرة والمخيلة بأن يخترق بعضُها بعضاً. السيدة الإنكليزية التي تجاوزت التسعين، لم تُفسد علينا نوم الليل وحده، بل يقظة النهار أيضاً. ولكن ظلت جلستُها المنحنية في سريرها مهيبةً، ولا تخلو من مسحة جمال. لا أعرف لم استحضرتُ هيئة "فرجينيا وولف". هل هو الخرفُ، التعالي أم النهاية الوشيكة؟ حين جاءتها الممرضة بصينية الطعام: طبق سمك مع البطاطا، عصير وحلوى، رفعت السيدة وجهها إليها قائلةً: هل لي بكأس نبيذ أحمر، رجاءً؟ أجابتها الممرضة بابتسامة حلوة: ولكننا في المستشفى لا نقدم نبيذاً مع الطعام. حنَت السيدةُ رأسها مهمهمة. حسدتها أنا على فيض الوهم هذا. كانت الشمس الشتائية تعرض المرضى على أسرتهم بحميمية من يعرض فراخاً في أعشاش. أيُّ ولعٍ هذا الذي يشدّني إليهم؟