"أتعرف ما معنى الكلمة؟، مفتاح الجنة في كلمة، دخول النار على كلمة، وقضاء الله هو كلمة، الكلمة نور... وبعض الكلمات قبور".
من أكثر ما أثر فيّ منذ الصغر ما قرأته شعراً لعبدالرحمن الشرقاوي، خصوصاً مسرحيته الشعرية "الحسين ثائراً"، ومن أكثر الشخصيات التي أحببتها من خلال ما قرأت شخصية "الحسين"، وليس بعيداً أن أحد الأسباب في هذا الإعجاب يعود إلى ما كتبه الشرقاوي، ظلت كلمات عبدالرحمن الشرقاوي عن الكلمة وقيمتها محفورة في ذاكرتي منذ أدمنت الانكباب على الكتب والغوص في بحارها.تمكنت الأيام من إزاحة الكلمات، الكثير مما قرأت وحفظت، مرور السنوات وزحام الأحداث ساعد في ذلك، ولكن ظل بعض مما قرأت وحفظت صغيراً محفوراً في عمق العقل والنفس، ودون استدعاء يعود في الوقت المناسب له تماماً، ويبدو أن هذا الوقت وهذه الأيام تبدو الأكثر مناسبة لاستعادة ما قاله الشرقاوي عن "الكلمة"، لتعود إلى سطح الذاكرة متأصلة ومتجذرة بإيمان حقيقي، بما تحمله هذه الكلمات من قيم ومعانٍ، باتت دون أن أدري جزءاً من تكويني وشخصيتي."أتعرف ما معنى الكلمة؟"، هذا هو السؤال الذي خلق بداخلي ذلك الإحساس المقدس بالكلمة، وأضاء لي مخاطرها التي يمكن أن تكون قبوراً، كما يمكن لها أن تكون نوراً، لذا ظلت الكلمة المقياس لديّ، وهي المقدسة في كل ما أفعل بحياتي.كل من يعرفني عن قرب يعرف أنني أتعامل مع الكلمات بمقياس يتجاوز في دقته مقياس الذهب، وأحاول بقدر المستطاع أن أستخدم الكلمات بأكبر قدر من الدقة وفي حدودها المرسومة، يلاحظ من يعرفني إلى أي مدى أحترم الكلمة وأقدس قيمتها وقدرها.وتبدو أهمية هذه الكلمات، في ظل حالة التخوين والتربص والتشويه الذي اتبعته بعض الأطراف في المجتمع، في الوقت الذي يجب أن نكون فيه يداً واحدة لإنقاذ الدولة من آثار عمليات الهدم والأخونة التي مرت بها ومازالت تعاني آثارها، والاستيلاء على مفاصلها ومقدراتها، ومستقبلها.الحالة من التربص غير المسبوق من أطراف عدة، وبدا الأمر كأن الزمن نجح لفترة طويلة في أن يضع أقنعة على وجوه الكثيرين، ومع طول الزمن بدا الأمر كأنه حقيقة، وكأن هذه الأقنعة باتت وجوهاً حقيقية، ويبدو أيضاً أن كثيراً من الناس تمكنوا من أن يواصلوا حياتهم بهذه الأقنعة، ولا تسمح تطورات الحياة بأن تسقط هذه الأقنعة لتظهر الوجوه الحقيقية، وفي ما يبدو أيضاً أن هذه هي الحالة الأكثر حضوراً، ولكن هناك حالات تمر بها المجتمعات تكون بحق حالات قادرة على إظهار المعادن الحقيقية للبشر، وتقذف بالأقنعة بعيداً لتظهر الوجوه الحقيقية لأصحابها، وتكشف أيضاً كم هم قليلون من الناس الذين استطاعوا العيش بلا قناع، بل بوجه حقيقي، هذه الحالات هي حالات مزلزلة، مثل تلك الحالة التي عاشتها مصر أخيراً بسقوط نظام، والدخول إلى مرحلة بدء إقامة نظام جديد.ومع سقوط نظام وبداية نظام جديد سقطت الكثير من الأقنعة، وقرر كثيرون أن يمارسوا تلك اللعبات البهلوانية في الانتقال من موقف إلى نقيضه، ومن أفكار إلى عكسها، بل ونقض الأفكار السابقة.قدرة عجيبة كشفتها الأحداث الأخيرة بعد صعود الإخوان إلى السلطة وما تبع ذلك من أحداث، ثم الإطاحة بهم والمرور إلى المرحلة الانتقالية ثم الوصول إلى مرحلة الدولة المستقرة، في كل المرات لعب البهلوانات ألعابهم التي نجحت وتنجح كثيراً، لكن الرهان على أنه لا يصح إلا الصحيح في النهاية، وكما كشفت هذه الانقلابات البهلوانية الكثيرين كشفت أيضاً من ظلوا بلا أقنعة قبل وبعد، مواقفهم اتسمت بالاتساق دون انقلابات لا يصدقها حتى أصحابها.محاولات التشويه مستمرة، والألعاب البهلوانية مستمرة، لكن أؤمن تماماً أن الكلمة وحدها قادرة على إزاحة كل هذا الظلام، رغم التشويه والتخوين والتخويف والإرهاب، وذات يوم سينتصر هذا الوطن، بعزيمة أبنائه وبكلمتهم ضد من سرقوه ونهبوه وأرادوا تقسيمه وبيعه، وضد بهلوانات كل المراحل.
أخر كلام
هل تعرف معنى الكلمة؟
17-01-2015