باتساع البلاد، عمّ الحزن على رحيل شاعر الشعب، وأيقونة الثورات المصرية، الخال المختار الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي.

Ad

وخرج آلاف المعزين لتشييع جثمان الفقيد إلى مثواه الأخير في مدينة الإسماعيلية، التي اختارها مقرا يجمع فيه بين أبنود بلد المنشأ، والقرب من مدينة القاهرة بعيدا عن ضوضائها، وشهدت الجنازة حضورا مكثفا من محبيه وعاشقيه، وقد أصيب بعضهم بحالات إغماء وعويل متواصل كالفنان محمد منير.

وكانت الحالة الصحية للشاعر الراحل قد شهدت تدهورا حادا يوم السبت الماضي، حيث تم إدخاله مستشفى المجمع الطبي للقوات المسلحة في القاهرة، وأجريت له عملية جراحية عاجلة بسبب ترسبات دموية في المخ.

ثروة ثقافية

وقدّم الشعراء والكتاب في مصر التعازي إلى أسرة الراحل والشعب المصري بوفاة الأبنودي، ونعى الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، الشاعر الراحل، الذي وافته المنية عصر أمس الأول، مؤكدا أنه تحمّل الكثير، وهو يواجه المتاعب والمحن التي دخلها، وتعرّض لها في الحياة، وآخرها صراعه مع المرض الذي عذبه كثيرا.

وقال حجازي إن الأبنودي ترك إنتاجا يضعه في مكان متقدم بين صفوف الشعراء، في مصر والعالم العربي، واسمه سيظل يُذكر، لأن شعره أصبح ثروة ثقافية ووطنية، واسمه ارتبط بأحداث لا يمكن أن تنسى في تاريخنا الحديث.

دعم الكويت

وقد أبدى الشاعر فاروق جويدة حزنه الشديد على رحيل الأبنودي، قائلا إن صفحة غاية في الأهمية من تاريخ الأدب والشعر قد طويت، مطالبا الدولة المصرية بالحفاظ على الأبنودي وتراثه وإدماجه مع سيرته ومسيرته في المناهج التعليمية، ففي حياته كان أكثر الشعراء تواصلا مع الجماهير، وذلك من خلال إيمانه الصادق بالقضايا التي دافع عنها.

وأضاف جويدة لـ "الجريدة": كان له دور صلب في دعم الكويت وقت الاعتداء من جانب صدام حسين، ولم يتوار عن دفاع واضح عن القضية الفلسطينية، مشيرا إلى أن تلك المواقف التي سجلها الأبنودي دون ادعاء هي التي شكلت أيقونته التي ستظل محفورة في وجدان الشعبين المصري والعربي.

وفي نعي الأبنودي، قال الكاتب والروائي يوسف القعيد إنه حزين للغاية لرحيل أحد أهم شعراء البلاد، قائلا: الأبنودي لم يكن مجرد شاعر، ولكنه كان من أهم الشعراء بعد رحيل صلاح جاهين، وكان مزيجا بين الصراحة الشديدة والغموض الجميل.

وأضاف القعيد: جمعتني بالراحل علاقة امتدت عقودا من الزمن، وكان ذا ثقل منذ أن خطونا أولى خطواتنا في عالم الأدب، ولم يتوان عن مساعدة أي إنسان، وهكذا عهدناه دائما، واستطاع الأبنودي بجدارة أن يسجل باسمه "مدرسة في الإبداع"، قوامها إسهامات لم تنقطع في العديد من المناحي الثقافية والفنية، وكان معبّرا بحق عن الجنوب وعن العروبة وعن الهموم العادية للمصريين.

السيرة الهلالية

وشدد وزير الثقافة السابق، جابر عصفور، على أن الأبنودي كان من العمالقة والقامات القليلة التي غيرت مسارات إبداعية كنجيب محفوظ ويوسف السباعي، مطالبا الدولة بالحفاظ على تراثه، وأن يجتهدوا ساعين إلى إقامة المتاحف التي تضم السيرة الهلالية وتوثقها ومعارض وفعاليات دائمة ببرنامج ثابت في قصور الثقافة لتسجيل إبداعات الراحل.

وأضاف عصفور أنه يجب علينا عدم الالتفات حاليا لأي من المعارك أو عدم التوافق بين الأبنودي وأي من المثقفين، ولكن اعتباره واحدا من أهرام مصر، والحفاظ عليه كظاهرة أدبية وفنية استثنائية، ولا شك في أنه أضفى على الشعر حالة مختلفة، ورفع من كفاءة العديد من المنتجات الإبداعية، سواء في الشعر أو الحوار أو كتابة أشعار التترات، فهو كان خير مثال للمبدع الشامل صاحب الدور، وكان يجمع بين مكر الفلاح وشهامة الصعيدي، بين ثقافة المفكرين وطيبة البسطاء.

صاحب البصمة الأبرز في تاريخ الشعر المصري الحديث عبدالرحمن الأبنودي، حارب المرض كما لم يحارب شيئا من قبل، الهزيمة، النكسة، تراجع الشعر وانكسار الثورات، أرسل من على سريره الأبيض رسائل التحدي واحدة تلو الأخرى:

 "عشب الربيع مهما اندهس بالقدم أو انتنى في الريح بيشب تاني لفوق، يغني للخضرة وطعم الألم"، وترتفع نبرة التحدي "ضحكتي مين يقدر يسرقها... ده أنا شجرة ضحكت أوراقها"، يعلن مجددا عدم خوفه من القادم "ما أجمل نومة على كتوف أصحابك... تنظر صاحبك من كدابك... تبحث عن صاحب أجمل وش... في الزمن الغش"، ليسلّم في النهاية "إذا جاك الموت يا وليدي موت على طول... أول ما يجيك الموت افتح، أول ما ينادي عليك اقلع... أنت الكسبان"، ولكن في النهاية سطر خالد: "مين ده اللي يطفي شعلة الصادقين"؟

أقوى الأصوات

من جانبه، يبرز الناقد الأدبي الكبير د. صلاح فضل الدور المهم والبارز للراحل العظيم، حيث يراه واحدا من أقوى الأصوات الشعرية الحديثة، بعدما أثرى وجداننا بمجموعة من الملاحم والقصائد، فهو من عرق صعيدي أعطى لنا مُثلا عليا لكل ما هو نبيل، رافعا أدب الشعب إلى ذروة الإتقان والجمال، ومؤكدا أن الراحل سيظل أحد الأصوات الأدبية المهمة في سلسلة شعراء العامية.

يقول فضل: "نسج لنا الراحل العظيم أعمالا شعرية مبنية على تراث العامية المصرية بشكل عام، لأن إبداعه لم يقتصر على اللهجة الصعيدية فقط، لذلك سيظل اسمه علامة بارزة في تاريخ الإبداع المصري والعربي"، مشيرا إلى أنه ساهم بأشعاره في شهرة العديد من المطربين والملحنين، لذلك سيبقى شعره الذي كتبه حيا إلى أن تقوم الساعة.

الأدباء لا يموتون

من جانبه، اعتبر الشاعر زين العابدين فؤاد - صديق الراحل منذ ستينيات القرن الماضي - أن الأبنودي سيظل بيننا بأشعاره وحكاياته، لأن الأدباء لا يموتون، وإنما يبقون وسط الناس بأعمالهم الخالدة، موضحا أن إبداعاته بمنزلة توثيق وتأريخ لكل الأحداث التي مرت بها مصر والأمة العربية على مدار عشرات السنين، حيث نقل هذه الأحداث للأجيال بتناوله الوطني الخالص والمخلص.

يقول فؤاد: "يجب أن يكون الاحتفال بالأبنودي على مستوى الحدث، ولائقاً بموهبته وتاريخه النقي، وأن تتم دراسة أعماله وتخليدها خاصة أنه كتبها برقّة شديدة ومفرطة، فهو صاحب مدرسة شعرية خاصة به، ولا يستطيع أحد أن يتجاهل إبداعه، ولاسيما أنه من جنوب مصر، لذلك كان يعبّر بصدق عن قضايا البسطاء والمهمشين، فجاءت كتاباته صادقة تصل إلى قلب محبيه وعشاق إبداعه".

من جانبه، يقول الروائي والسيناريست عبدالرحيم كمال الذي تشارك مع الأبنودي في عدد من الأعمال الدرامية: "آخر اتصال بيني وبين الخال كان قبل عيد ميلاده بأيام قليلة منذ 10 أيام تقريباً، وقلت له "اقرأ مقالي الذي كتبته بمناسبة عيد ميلادك"، فردّ عليَّ الأبنودي: "اللي يعيش يبقى يقرا"، مشيرا إلى أن الخال كان يرى أن الشعر أبقى، وأن منجزه الشعري أهم من كل تترات المسلسلات التي حفظها الناس ورددوها عن ظهر قلب.

ويؤكد كمال أن الأبنودي كان يسترد صحته وعافيته عندما يتحدث معه أحد عن الشعر، حيث كان يبتسم في طفولة وارتباك، ثم يأخذ نفسه ويستعيد حضوره القوي ويصبح طاووسا يتنفس شعرا حتى في أسوأ حالاته الصحية، موضحا أنه رغم الألم الذي يعتصره، فإنه يشعر بالسعادة لوجود بعض الذكريات الصغيرة بينه وبين الخال، والتي تكفيه لأن يشعر بالسعادة دوما.

متحدث رسمي

من جانبه، يرى الشاعر الشاب سيد العديسي الذي كان يرتبط بالراحل بعلاقة صداقة أن الأبنودي لا يعتبر شاعر عامية فقط، لكنه في إدراك الكثيرين هو المتحدث الرسمي باسم الصعيد، لأنه هو أول من استخدم المفردة الصعيدية في الغناء، وأول من فضّ مغاليقها لتناسب الشعر حتى وصل الأمر إلى اتهام أي شاعر عامية بأنه يسعى لتقليد الأبنودي، مستكملاً كلامه: "في عرف الناس طالما هناك لهجة صعيدية في الأغنية والشعر، إذن هناك الأبنودي الذي غنى معه المواطنون أغاني الكفاح وشحذ العزيمة وكثيرا من الأغاني الوطنية".

ويشير العديسي إلى أنه رغم الأزمات الكثيرة التي كان الأبنودي طرفا بها، فإن أعداءه قبل أصدقائه كانوا يعترفون بموهبته، ويؤمنون أنه لو تمت تسمية أحد بأمير شعر العامية فإن هذا اللقب لن يفوته، موضحا أن الفضل يرجع إليه في التحول الرهيب الذي حدث في الأغنية إبان الستينيات، فقد أخذ بيدها من الصالونات والأماكن المغلقة إلى براح الشارع والناس، وهو الأمر الذي أثار دهشة عبدالحليم حافظ حين شاهد النجاح الذي أحرزه الأبنودي بصوت محمد رشدي.

من جانبه، يقول الشاعر عادل جلال المنسق العام لمؤتمر قصيدة النثر: "الأبنودي واحد ممن شكلوا وجدان المواطن المصري والعربي في مراحل تاريخية مهمة، وكان يتجمع المواطنون لسماع كلمات أغانيه عبر أجهزة الراديو، من خلال أغاني العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ ومحمد رشدي، موضحا أن أغنية مثل "عدى النهار" لا يمكن أن ينساها المواطنون؛ سواء الذين عاشوا هذه المرحلة أو من تبعهم حتى وقتنا هذا".

ويؤكد جلال أن تعلّق المواطنين بالشعراء لا يوجد بكثرة، باستثناء حالة الأبنودي الذي أسمع الجميع السيرة الهلالية بفضل موهبته وكاريزمته، مشيرا إلى أن "الخال" انتصر للعامية المصرية وحلّق بها خارج حدود الوطن، مستغلا نشأته في أقصى صعيد مصر في نقل جزء غير مسبوق من لغة وحكايات فقراء الصعيد الشيقة، فلذلك ملأ فراغا هائلا في الثقافة والشعر المصري والعربي.

المرأة في حياته

كان الأبنودي شديد الارتباط بأمه فاطمة قنديل، رغم أن ترتيبه كان الأوسط بين الأبناء، وانعكست هذه العلاقة بصورة كبيرة في تشكيل ورسم ملامح شخصيته، كما كان لها الأثر الأكبر في حبه للشعر،

ولاسيما أن أمه كانت تحرص دائما على ترديد الموروثات والأغاني وتستلهم وحيها من الطبيعة.

وقال الأبنودي عن أمه: "عاشت وماتت فاطمة قنديل وهي لا تعرف العام الذي ولدت فيه ولا العام الذي ودعت فيه الحياة، ولا أي عام آخر"، كما قال عنها: "ما سمعته من أمي شحنني بتجربة خرافية كانت دائما لصيقة بالغناء، ذلك لأنه يشكل له علاقة فريدة مع الحياة، كالحر والبرد والظل والشمس والليل والنهار والجوع والشبع، لا يوجد فعل لا يصاحبه غناء في تلك القرية، وفي بيتنا الفقير بالذات".

وأيضا: "وأمي.. والليل مليل، طعم الزاد القليل، بترفرف.. قبل ما ترحل، جناح بريشات حزانى، وسددت ديونها، وشرت كفن الدفانة، تقف للموت يوماتي".

أما الجدة "ست أبوها"، فيذكرها بالقول: "تزوَّج الحاج قنديل من ست أبوها، كانت امرأة حية نشطة مؤمنة حادة الطباع في رقّة، تعمل كالرجال وتملأ البيت الكبير بالحركة والصخب".

وعن الزوجة، قال: "ساهم ارتباطي بالإعلامية نهال كمال في كتابتي لقصائد الأشعار، حيث استطاعت أن توفر لي مناخا هادئا يتسم بالاستقرار والدفء، كما أنها تحملت مشقة السفر والانتقال بصورة شبه يومية من القاهرة للإسماعيلية، حيث اضطرتني الظروف نظرا للتلوث إلى الإقامة بالإسماعيلية منذ سنوات طويلة، وكان ذلك تنفيذا لأوامر الأطباء، وعلى الرغم من طبيعة عملها كإعلامية، فإنها لم تتراخ لحظة في دورها معي".

أيضا، نشأت علاقة صداقة بين الأبنودي وابنتيه "آية ونور"، وكان يحرص على اصطحاب آية في الأمسيات والندوات الشعرية، كما يحرص على الاستماع لآرائها في الأشعار التي يكتبها.

أما الشقيقات في حياة الأبنودي، فكما يراهن: "يتميزن بالحنان الأنثوي الذي يغرق فيه أفراد الأسرة".

وعن والدة زوجته، قال "الخال": "لم أشعر يوما بالقلق من وجود حماتي، بل أراها دائما في صورة أم الزوجة التي لا ترجو إلا سعادة ابنتها واستقرارها".

التحولات السياسية

ينتمى الشاعر عبدالرحمن الأبنودي إلى أسرة محافظة، فهو ابن الشيخ محمود الأبنودي الذي كان يعمل مأذونا شرعيا، ووُلد في قرية أبنود عام 1939، ورحل إلى مدينة قنا في صعيد مصر، وظهرت موهبته الشعرية منذ نعومة أظفاره، فأتقن الشعر العامي وتعلّق بشعر المتنبي وأبي العلاء المعري، واعتمدهما أساسا ومقياسا للذوق الشعري والأدبي.

وقبل رحيله قال: "حيًا أو ميتًا أنا عبدالرحمن الأبنودي... عِشت حياتي طفلا، أحببت هذا الوطن والناس، متنسونيش ولا عايز أتلف في علَم ولا ملاية، عايز أرحل من بره بره كده"، ليرحل عن عمر يناهز 76 عاما.

عاش فنانا حرا طليقا بسيطا، حمل هموم أمته، وصاغها شعرا خالدا طازجا حاضرا في كل وقت وحين، فهو كما قال عنه الأديب يحيى حقي يشبه "قرص العيش البلدي بالسمنة الفلاحي".

قاد الأبنودي اهتمامه بالشعر إلى التحاقه بكلية الآداب في جامعة القاهرة التي حصل منها على شهادة الليسانس في اللغة العربية، أحب الأبنودي وتأثر بوالدته فاطمة قنديل أيما تأثر.

ونسج الأبنودي قصائده من هموم المصريين وآلامهم، فبات شعره العامي متنفسا لملايين المقهورين والفقراء والمسحوقين، بل إنه ساهم في صقل شخصية المصري الثائر الرافض للظلم والاستبداد.

عايش الأبنودي التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر، وانتقد بشكل لاذع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، كما تعرّض للسجن 4 أشهر في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، رغم تأييده له، وذلك على خلفية أشعاره التي انتقدت مسؤولين كبارا آنذاك، وسرت بين العامة كما النار في الهشيم.

وحصل "الخال" على جائزة الدولة التقديرية عام 2001، ليكون بذلك أول شاعر عامية مصري يفوز بجائزة الدولة التقديرية، كما فاز بجائزة محمود درويش للإبداع العربي لعام 2014.

من أشهر دواوينه الشعرية "الأرض والعيال"، و"الزحمة"، و"جوابات حراجي القط"، والسيرة الهلالية"، و"الأحزان العادية"، كما كتب عددا من الأغاني التي غنت بها السينما المصرية أشهرها "عدى النهار"، و"أحلف بسماها وبترابها"، "أحضان الحبايب"، و"طبعًا أحباب"، وغيرها الكثير والكثير من الدواوين والأغاني، وتبقى قصيدة "الميدان" واحدة من أهم قصائد الراحل الكبير، التي أطلقها في ذكرى ثورة 25 يناير 2011.