منذ أيام وأنا أنخُل مكتبتي الخاصة، وقد فاضت أمواجها حدّاً تجاوز عافيتي على السباحة.

Ad

 فالكتب، واسطوانات LP السوداء، واسطوانات الـ CD والـ DVD صارت تحتل كل شبر من جدران وأرضية بيتي الصغير المتواضع.

لقد كانت تلك تليق بقلب سليم العَضل، سليم النبض، من دون شك.

اليوم، وقد أنجز هذا القلب سنوات معتركه السبعين، أجدني ملزماً، بفعل هاجس أخلاقي بالدرجة الأولى، أن أخفف عنه عبء النفس المكابرة، وأمنحه جادة تليق بقلب واهن. جادة ما بعد السبعين التي يراها إضافة كريمة من العمر، لعلها لم تكن في الحسبان، لا ينتهكها الزمان بنبض الساعة، ولا المكان بالمقياس السنتيمتري.

جادة تجعل من الموسيقى آلتها في قياس الزمان. وتجعل من اللوحة والمنحوتة آلتها في قياس المكان. أما المدى الثالث فالشعر كفيل به، وهو زبدة الوعي. وجاهزية القدرات هذه على المثول أمامنا صارت محكومة بحركة أصبع. العصر الحديث جعل منا سحرة "افتح يا سمسم".

فمكتبتي الإلكترونية صارت تضم مئات الكتب، أحملها في جيبي. و"الإنترنت" تزودني، بلا حدود، بكل باريتون غنّى Winterreise لشوبرت، وكل عازف بيانو حاول سوناتات بيتهوفن المتمنعة. لا أصغي لصوت مجرد فحسب، بل تستغرقني الصورة والصوت معا. وفي لحظة واحدة أقدر أن أتأمل لوحة أتذكرها لكرفاجيو أو رمبرانت على راحة الكف.

الحكمة تستدعي هذه الاستجابة من أجل رضى القلب، وراحته. فله الحق كله في أن يشكو من علل الكبر، ومن مخاطر الوحدة. وعليّ الواجب كله أن أصون حرمة هذا العضو الدؤوب على الحياة. ولأن المعرفة هي الهدف فما قيمة الوسائل، وهذا العصر الحديث ينتزع هذه الوسائل من وطأة المادة الثقيلة، ويمنحها هيئة رقمية لا وزن لها؟

الآن، وبفعل قوى خارج إرادتي، أجدني أوفر بيسر للقلب المسن ما ينشده من فضاء محيط، ومدى مفتوح، ومزيد من الضوء.

سارعت إلى الكتب أولا، أنخلها على مهل: أريده، لا أريده. أريده، لا أريده.. وكان القلب يغمض طرفا مع كل كتاب أتخلى عنه، ويوافقني وكأن على مضض. الماضي عزيز عليه، ولكن المستقبل لا يقل معزّة.

 كنت أعمل بهمّة، لأنني كنت أستعيد مقالة قرأتها قبل سنوات للألماني هيرمان هسّه، يشجع على تصفية كهذه. مع معرفتي بأن تصفيته لم تكن ترضية لقلب متعب.

ولكن الذي شغلني قليلا هو الخطوط التي اعتدت رسمها تحت الجمل والفقرات النافعة، وتلك الهوامش بالحرف الناعم، التي كنت أسطّرها، تعقيبا على فكرة، أو ترجمة لها. ما هو دورهما في الخيار؟

 كنت أصر على أن لا دور لهما: هذا ماض، أيها العزيز. وأنا أحاول أن أشرع لك بابا إلى طريق مفرغ من الوساوس. لا بد لتلك الخطوط، وتلك الهوامش من أن تكون قد تسربت إلى كتاباتك السابقة، وأفرغت فيها مصلها الحي.

 ولكنني حين جئت الاسطوانات السوداء أنخلها، كانت أكثر مشقة على القلب. فالخطوط والهوامش التي خلفتُها على موجات اللحن والهارموني، ليست مرئية شأن الكلمات وأسطرها. إنها أفكار قلبية، وعواطف عقلية، تخرج على هيئة تنهدات سرعان ما تتلاشى، شأن النغم، في الأثير.

وحدها لمسات الأصابع من يخلف أثرا. وها هي لمسات أصابعي تبعث التماعتها الخفية ما إن يمسها الضوء. ثم أن للإسطوانة كيسا شفافا حافظا، وآخر كارتونيا مزين الواجهة باللوحة والصورة، ومزدحم الخلفية بالمعلومة والتعليق.

كل اسطوانة خلية نحل، فكم هو عسل هذا الحشد الضاجّ الذي يتجاوز ألفي أسطوانة؟

ولكنني صرت أعزي النفس بعسل السكينة الكامن في سنوات العمر الفائضة.

صرت أهيئها لحركة زمان قادم يتدفق من حركة اللحن، ولسكينة مكان كامنة في الكتل والألوان. وللشعر أن ينجز ما تبقى من زبدة الوعي، الكامن في خبرة الماضي ومعارفه.

طربت لكل هذا، وأنا "أفلّي" مكتبتي بجرأة أكثر: أريده، لا أريده... أريدها، لا أريدها.