سايبة
ثمة أفلام لا تستطيع أن تنساها، ربما لأنها تنكأ جرحاً قديماً بداخلك أو تُذكرك بحادث سعيد لا يبرح ذاكرتك أو لأنها تصدمك ثم تُطاردك في صحوك ومنامك! «سايبة» عنوان فيلم روائي قصير، كتبه باسم بريش وأخرجه، ينتمي إلى هذه النوعية من الأفلام التي لا تُمحى بسهولة من الذاكرة، لأنه يترك مشاهده مذهولاً لفرط الصدمة، وربما يبقى في مقعده بصالة العرض بعض الوقت كي يستعيد اتزانه النفسي، ويصبح مهيئاً لمغادرة القاعة، والعودة إلى العالم الذي كان ينتمي إليه قبل الفرجة على الفيلم، الذي شهدت الدورة الحادية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي عرضه الأول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
«سايبة» كما تبين من أحداث الفيلم، الذي لا تتجاوز مدة عرضه على الشاشة ثماني عشرة دقيقة، هي بقرة «سايبة» هجرت أصحابها، وعبرت منطقة الألغام الفاصلة بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، وآثرت العيش في منطقة «سايبة» مع عائلة عربية لاجئة ومهمشة لا تملك من أمرها شيئاً، ويبدو جلياً أنها دفعت ثمناً فادحاً دفاعاً عن قضيتها، بدليل العكاز الذي لا يفارق الأب، والساق المبتورة للابن الأكبر، فضلاً عن العوز والضنك اللذين يعصفان بالأم والابن الأصغر والصبية «ملك»، ولهذا السبب تُصبح البقرة موضع حفاوة من الجميع، خصوصاً الصبية، التي تحنو عليها، وتستشعر أن الخير سيعم بعد قدومها. لكن العائلة لا تهنأ بالبقرة طويلاً، إذ تنشق الأرض عن سيارة تُقل رجلاً يخاطبه الأب Mayor ـ العمدة ـ ونستشعر أنه صاحب نفوذ وحيثية، بعد أن يُطالب الأب ألا يرحب بالبقرة لأنها إسرائيلية، وألا يشرب حليبها ويأكل خيرها ثم يقتلها «لأن هذا ليس من شيمنا»، ويدعو الجميع إلى أن «يكبوا الحليب ويأتوا بالسكين». ويحتدم الحوار بين «ممثل السلطة» والأب، الذي يتهمه بتجاهل السؤال عنه، وعائلته، وإهمال علاج ابنه «حسين»، وفرض جباية عليهم. ووسط احتدام الجدل يصل ممثلان عن الأمم المتحدة يُصدران أوامر مشددة بألا يقترب أحد من البقرة أو يذبحها «لأنها إسرائيلية... ولأنها أم»، ويُكلف أحدهم الصبية «ملك» برعاية البقرة. لكن «ممثل السلطة» يُصر على «ترحيل البقرة» في ظل معارضة من ممثل الأمم المتحدة الذي يتبنى موقفاً متناقضاً، يفضح سياسة «المعايير المزدوجة» التي ينتهجها هذا الكيان الأممي، عندما يقول إن «إسرائيل لا تريد البقرة، وإنها تنتمي الآن إلى أرض لبنانية وإلى أبو حسين». وبينما هم غارقون في جدلهم البيزنطي ينفجر لغم في «ملك» والبقرة، وينتهي «المشهد» بمصرعهما!ينوه المخرج باسم بريش في العناوين إلى أن الفيلم، الذي تعاون لبنان وألمانيا في إنتاجه، مأخوذ عن قصة حقيقية، لكن المتابع للأحداث على الشاشة لا بد من أن ينبهر بقدرة المخرج، الذي وُلد عام 1978، وبدأ مسيرته السينمائية ممثلاً، على تقديم فيلم منضبط في إيقاعه (مونتاج: رنا صباغة)، لاهث في أحداثه، استطاع أن ينأى بنفسه، والجمهور، عن الوقوع في براثن الخطابة والمباشرة، ومزج بين الرمزية والواقعية وهو يتحدث عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، كما سجل، بوضوح، موقفه المناهض للكفاح القائم على الثرثرة، والنضال المعتمد على الجعجعة، وتبنى الدعوة إلى السلام، وضرورة التسامح بين الأديان، مثلما أبدى تعاطفاً كبيراً مع البشر، الذين يُضحي البعض بهم طمعاً في البقاء على مقاعد السلطة أو الحفاظ على المصالح الشخصية، ولم ينس التنديد بالموقف الدولي، الأمم المتحدة، المتخاذل والمنحاز، والمتعاطف مع الحيوانات بأكثر مما يرأف ببني البشر!قال «بريش» كلمته في الفيلم، الذي نال جائزة «روبرت بوش ستيفتونغ» لتطوير السيناريو في العام 2013، مستخدماً لغة سينمائية مالت إلى البساطة، وربما التواضع، وأداء عذب من ممثلين لا تعرف إن كانوا محترفين أم هواة؛ مثل: علي شبلي (الأب)، رضا صبرا (الأم)، إنجي صالح (ملك) والعمدة (محمد عقبل). لكنه أحدث الصدمة المطلوبة، وفجر الموقف برمته، عبر لقطة المذياع الذي يلف رقبة الأب، ولا يفارقه أينما ذهب، وكأنه ينتظر الخبر الذي يزف إليه بشرى ما، بالإضافة إلى مشهد النهاية الذي جاء أقرب إلى اللطمة أو الصفعة التي انهال بها على وجوه المتخاذلين والمتواطئين وهواة الشعارات ومحترفي النضال بالكلمات، فاللغم انفجر في الصبية العربية البريئة والبقرة الإسرائيلية معاً، ووقع الصدمة كان كبيراً على أطراف المعادلة كافة فكان الصمت والذهول والوجوم والشعور بتأنيب الضمير تجاه الصبية البريئة التي لم ترتكب إثماً تُعاقب عليه بالموت، وحيال البقرة التي اختارت، بإرادتها أن تعيش في الجانب الذي ترتاح إليه، وهنا بدا وكأن المخرج/ كاتب السيناريو يناشدنا التحرك بشكل عاجل، ووضع نهاية للصراع، قبل فوات الأوان، وقبل أن ينفجر اللغم في الجميع من دون استثناء!