قنبلة السيولة الموقوتة
يُعَد المزيج من السيولة الكلية ونقص السيولة في الأسواق بمثابة قنبلة موقوتة، فحتى الآن أدى إلى انهيارات سريعة ناجمة عن التقلبات وتغيرات مفاجئة في عائدات السندات وأسعار الأسهم فقط، فكلما عملت البنوك المركزية على خلق السيولة لفترة أطول لقمع التقلبات القصيرة الأجل زادت من تغذية الفقاعات في أسواق الأسهم والسندات، وغير ذلك من أسواق الأصول.
منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008، نشأت مفارقة في الأسواق المالية للاقتصادات المتقدمة، فقد خلقت السياسات النقدية غير التقليدية عبئاً هائلاً يتمثل بالسيولة، ولكن سلسلة من الصدمات الأخيرة تشير إلى أن السيولة الكلية أصبحت مرتبطة بنقص شديد في السيولة في السوق.إن أسعار الفائدة الرسمية أصبحت قريبة من الصِفر (وفي بعض الأحيان أقل من الصِفر) في أغلب الاقتصادات المتقدمة، كما ارتفعت إلى عنان السماء القاعدة النقدية (الأموال التي تخلقها البنوك المركزية في هيئة احتياطيات نقدية وسائلة للبنوك التجارية) إلى مثليها، وثلاثة أمثالها، وفي الولايات المتحدة إلى أربعة أمثالها مقارنة بفترة ما قبل الأزمة، وكان ذلك سبباً في الإبقاء على أسعار الفائدة القصيرة والطويلة الأجل منخفضة (بل حتى سلبية في بعض الحالات، كما هي الحال في أوروبا واليابان)، والحد من التقلبات في أسواق السندات، وزيادة أسعار العديد من الأصول (بما في ذلك الأسهم، والعقارات، وسندات الدخل الثابت للقطاعين الخاص والعام).
ورغم هذا فإن المستثمرين لديهم من الأسباب ما يدعو إلى القلق، بدأت مخاوفهم بالانهيار السريع في مايو 2007، عندما هبطت قيمة مؤشرات الأسهم الكبرى في الولايات المتحدة في غضون ثلاثين دقيقة بنحو 10% قبل أن تعود إلى التعافي السريع، ثم أتت "نوبة الخفض التدريجي للإنفاق" في ربيع عام 2013، عندما ارتفعت أسعار الفائدة الطويلة الأجل في الولايات المتحدة بنحو 100 نقطة أساس بعد أن أشار رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي بن برنانكي آنذاك إلى إنهاء مشتريات بنك الاحتياطي الفدرالي الشهرية من الأوراق المالية الطويلة الأجل.وعلى نحو مماثل، في أكتوبر 2014، هبطت العائدات على سندات الخزانة الأميركية بنحو 40 نقطة أساس في غضون دقائق معدودة، وهو ما يزعم خبراء الإحصاء أنه لا يحدث إلا مرة واحدة كل ثلاثة مليارات عام، ولكن أحدث حلقة كانت في الشهر الماضي، عندما هبطت العائدات على السندات الألمانية لعشر سنوات من خمس نقاط أساس إلى ثمانين نقطة تقريبا، في غضون بضعة أيام.وقد غذت هذه الأحداث المخاوف من أن حتى الأسواق الشديدة العمق والسيولة- مثل سوق الأسهم الأميركية وسندات حكومة الولايات المتحدة وألمانيا- قد لا تكون سائلة بالقدر الكافي، ولكن ما الذي يفسر إذاً تركيبة السيولة الكلية والسيولة في السوق؟بادئ ذي بدء، في أسواق الأسهم، كان التجار الكثيرو التداول، الذين يستخدمون برامج الكمبيوتر الحسابية لمتابعة اتجاهات السوق، يمثلون حصة أكبر من المعاملات، ومن غير المستغرب إذاً أن يؤدي هذا إلى خلق سلوك القطيع، والواقع أن التداول في الولايات المتحدة اليوم يتركز عند الساعتين الأولى والأخيرة من يوم التداول، عندما يكون التجار الكثيرو التداول في أوج نشاطهم؛ وبقية اليوم تصبح الأسواق ناقصة السيولة، ولا تشهد سوى قِلة من التعاملات.ويكمن السبب الثاني في حقيقة مفادها أن أصول الدخل الثابت- مثل الحكومات والشركات وسندات الأسواق الناشئة- لا يتم تداولها في أسواق البورصة الأكثر سيولة، كما يتم تداول الأسهم، بل يتم تداولها غالباً من دون إدراجها في البورصة في الأسواق التي تفتقر إلى السيولة.وثالثا، ليس الدخل الثابت فقط هو الأكثر افتقاراً إلى السيولة، بل إن أغلب هذه الأدوات- التي تنامت أعدادها بشكل هائل بسبب الإصدار المتكاثر للديون الخاصة والعامة قبل الأزمة المالية وبعدها- يتم الاحتفاظ بها في صناديق مفتوحة تسمح للمستثمرين بالخروج بين عشية وضحاها، ولنتخيل بنكاً يستثمر في أصول غير سائلة ولكنه يسمح للمودعين باسترداد أموالهم النقدية بين عشية وضحاها: إذا حدث تكالب على استرداد الودائع في هذه الصناديق فإن الاحتياج إلى بيع الأصول غير السائلة من الممكن أن يدفع أسعارها إلى الانخفاض الشديد وبسرعة هائلة، في ما يمكن وصفه بالبيع بأبخس الأسعار. رابعا، قبل اندلاع أزمة 2008، كانت البنوك صانعة لأسواق أدوات الدخل الثابت، فكانت تحتفظ بمخزونات ضخمة من هذه الأصول، وبالتالي عملت على توفير السيولة وتسهيل التقلب المفرط في الأسعار، ولكن مع معاقبة التنظيمات الجديدة لهذا النوع من التداول (عن طريق فرض رسوم رأسمالية أعلى)، عملت البنوك وغيرها من المؤسسات المالية على تقليل أنشطتها في صناعة الأسواق؛ لذا ففي أوقات المفاجآت التي تحرك أسعار السندات وعائداتها، لا تكون البنوك متاحة للعمل على تثبيت استقرارها.باختصار، على الرغم من أن عمل البنوك المركزية على خلق السيولة الكلية ربما أبقى على عائدات السندات عند مستويات منخفضة وخفف من حدة التقلبات، فإنه أدى أيضاً إلى تكثيف التداولات (والحشد على اتجاهات السوق، التي تفاقمت بفعل التجار الكثيري التداول) وزيادة الاستثمار في صناديق السندات غير السائلة، في حين يعني تخفيف القيود التنظيمية أن صناع الأسواق تاهوا في المعمعة.ونتيجة لهذا، فعندما تحدث المفاجآت- على سبيل المثال يشير بنك الاحتياطي الفدرالي إلى الخروج في موعد سابق للتوقعات من معدلات الفائدة القريبة من الصِفر، أو ارتفاع أسعار النفط، أو انتعاش النمو في منطقة اليورو- فإن إعادة تصنيف الأسهم وخصوصا السندات قد تكون سريعة ودرامية: فكل من يجد نفسه عالقاً في نفس التداولات المزدحمة يرغب في الخروج بسرعة، ويحدث التكالب في الاتجاه المعاكس أيضا، ولكن لأن العديد من الاستثمارات يُحتَفَظ بها في صناديق غير سائلة، ولأن صناع السوق التقليديين الذين خففوا من حدة التقلبات لم يعد لهم وجود، فإن البائعين يضطرون إلى البيع بأسعار بخسة.ويُعَد هذا المزيج من السيولة الكلية ونقص السيولة في الأسواق بمثابة قنبلة موقوتة، فحتى الآن أدى إلى انهيارات سريعة ناجمة عن التقلبات وتغيرات مفاجئة في عائدات السندات وأسعار الأسهم فقط، ولكن بمرور الوقت، كلما عملت البنوك المركزية على خلق السيولة لفترة أطول لقمع التقلبات القصيرة الأجل، زادت من تغذية الفقاعات في أسواق الأسهم والسندات، وغير ذلك من أسواق الأصول. ومع إقبال المزيد من المستثمرين على الأصول غير السائلة المبالغ في تقدير قيمتها على نحو متزايد- مثل السندات- يتزايد خطر الانهيار الطويل الأجل.هذه هي النتيجة المتناقضة للاستجابة السياسية للأزمة المالية، ذلك أن السيولة الكلية تغذي الطفرات والفقاعات؛ ولكن نقص السيولة في الأسواق من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى الركود والانهيار.* نورييل روبيني | Nouriel Roubini ، رئيس مؤسسة روبيني للاقتصاد العالمي (www.roubini.com)، وأستاذ الاقتصاد في كلية شترين لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»