في كتابه «ما وراء الكتابة... تجربتي مع الإبداع»، يعتبر الكاتب إبراهيم عبد المجيد روايته «المسافات» إحدى العلامات الفارقة في حياته. وهذه العلامات، كما يقول، بعضها محسوس وملموس وبعضها خفي يحتاج إلى دراسة وتدقيق.

Ad

بدأ عبدالمجيد في كتابة هذه الرواية في مايو عام 1977 وهي مرحلة مهمة في حياة المؤلف لأنه سبقت كتابتها كتابة رواية «فى الصيف السابع والستين» التي أثرت فيه كثيراً ولم يكن قد نشرها حتى كتابة «المسافات». ورغم أن حرب أكتوبر قد بدأت وانتهت بالنصر إلا أنه ظل لفترة يشعر بمرارة الهزيمة في 1967، وكان يريد ألا ينسى المصريون مرارتها لذلك استعان في كتابته «في الصيف السابع والستين» بالأخبار والأحداث التي جرت أيام الحرب وقام ببناء على الكولاج بينها وبين الأحداث ليفسر ويوضح ما انتهت إليه الأمور بالهزيمة. ودان في الرواية الاتجاهات السياسية القائمة والممثلة في شخصيات الرواية. لكن للأسف رفض الرقيب نشرها في هذا التوقيت بسبب انتقاد الاتحاد السوفياتي، وبعد عام آخر رفضها الرقيب أيضاً لإدانة الولايات المتحدة الأميركية التي بدأت في هذا الوقت المصالحة مع الرئيس الراحل أنور السادات.

يتساءل عبدالمجيد في إحدى صفحات كتابه {ما وراء الكتابة} عن جدوى الكتابة دون قارئ عادي؟ ما معنى كتابة قصة لن يقرأها غير النقاد؟ وما معنى قصة تفرض عليها لغة قد يتطلب مكانها وزمانها وشخوصها لغات أخرى وكان يتحدث في هذا الجزء عن قصة {شمس الظهيرة} التي نشرها في مجلة {الطليعة} وكانت تشبه بعض كتابات جيل الستينيات والتي تتبع فيها خطواتهم حيث يقول: {مشيت وراء اللغة أكثر مما ينبغي حتى استغلقت القصة على القارئ}.

مرحلة الطفولة طاردت الروائي الكبير باستمرار وظهر ذلك جلياً عندما كان يكتب {المسافات}، حيث كان يتذكر دوماً رحلته كل يوم إلى المدرسة وهو طالب في مدرسة القباري الابتدائية ومدرسة طاهر بك الإعدادية بسبب أن أبطال الرواية عمال في السكة الحديد ويسكنون في {سكن العاملين} حيث عاش عبدالمجيد طفولته وصباه في {سكن} عمال السكة الحديد القائم على ترعة المحمودية. وهذه التفاصيل الخاصة برحلة عودته هي التي أوحت له بـ}الصياد واليمام}، في ما بعد، فقد كان له زميل يكبره بعامين يدعى مصطفى دائماً معه {نبل} يصطاد به العصافير، وكانا يمشيان مع بعضهما البعض ليتقابلا يومياً مع شاب يصطاد العصافير واليمام ببندقية. وأشار الكاتب إلى أنه كان يساعد هذا الرجل في التقاط الطيور التي تم اصطيادها من على الأرض.

يقول مؤلف الكتاب: {الغريب أني وأنا أوشك على الانتهاء من رواية {المسافات} داهمتني رواية قصيرة أخرى هي {ليلة العشق والدم} فبدأت فيها لكن لم تتعجلني أو أتعجلها}. وما كاد أن ينتهي أيضاً من المسافات حتى عاد إلى القصة القصيرة {الصياد واليمام} ليكتبها من جديد رواية قصيرة تحمل الاسم نفسه، ذلك الصياد الذي يرى كل شيء موجوداً غير موجود، ليوم كامل يبحث عن اليمام والحقيقة أنه يبحث عن الزمن القديم الذي يستيقظ في الرواية بالفعل المضارع كأنه الحاضر الذي لا يفارق روحه بينما الحاضر بالفعل الماضي كأنه مغترب عنه لا يريده، وأصل أزمته هي نكسة 1967 التي فقد فيها ابنه.

الإسكندرية

القسم الثاني من الكتاب خصصه المؤلف للحديث عن معشوقته الأولى {الإسكندرية}. يرى هذه المدينة ليست مجرد هواء يهب من البحر إنما هواء أرسله تاريخ المدينة العجيب، تاريخ التمرد والنزق والتسامح تؤثر في كل من يعيش بها والدليل أن نجيب محفوظ عندما كتب عن القاهرة جاءت رواياته كلاسيكية لكن حين انتقل إلى الإسكندرية عام 1961 ليكتب روايته الفذة {اللص والكلاب} صارت كتابته عصرية حداثية أكثر تحرراً في اللغة، شعرية شديدة القفزات في الحوار مع روايات محفوظ الاسكندرية مثل {الطريق} و{السمان والخريف} و{ميرامار} التي عبرت بالرواية العربية كلها إلى أفق حداثي في التشكيل.

يحكي لنا عبدالمجيد عن الأسباب التي أدت به إلى كتابة قصته القصيرة {كان يعرف أسماء البلاد} التي كتبها عن شخص مسافر وحده في الصحراء راحلاً إلى دولة ليبيا ماشياً على قدميه وقد عاش عبدالمجيد هذه القصة قبل كتابتها عندما كان طفلاً حيث كان يجلس في أحد أيام شهر رمضان الكريم مع والده وصديق والده المسيحي إبراهيم صليب الذي كان يؤجل أكله بالنهار ليتناوله معهما ساعة الإفطار، ورآهم هذا المسافر أمام مسكن عمال السكة الحديد يتناولون الإفطار فجاء إليهم وجلس يأكل دون كلام وحكى لهم أنه في طريقه إلى ليبيا مشياً عبر الصحراء باحثاً عن الرزق أو حياة أفضل.

أما عن روايته الأهم {لا أحد ينام في الإسكندرية} والتي استغرقت كتابتها ست سنوات فيقول المؤلف: {كنت في طريقي مع أسرتي إلى مرسى مطروح في صيف 1990 لنمضي أسبوعاً هناك. توقفت بسيارتي في العلمين لنرتاح قليلاً في كافيتيريا صغيرة. وجدت أمامي متحف العلمين الصغير وبدأ الماضي البعيد يستيقظ حيث دارت المعركة الفاصلة في الحرب العالمية الثانية}. ووجد المدينة كما وصفها له أبوه لم تتغير إلا تغيرات طفيفة. يقول: {كنت أعرف أنني سأكتب رواية مختلفة وسأجد نفسي في قلب التسامح الذي شكل حياة البشر في المدينة عبر التاريخ وتحت الموت والدمار}.

لأجل هذه الرواية ذهب عبدالمجيد إلى دار الكتب المصرية على الكورنيش في بولاق في القاهرة، وبدأت رحلته مع الصحف، وبالذات {الأهرام}، وقرأها يوماً بيوم منذ بداية سبتمبر 1939 حتى نهاية نوفمبر 1942. وراح يدون ما يراه مناسباً للرواية من وقائع سياسية وحربية، والأهم هو الحياة اليومية للمصريين عموماً والاسكندريين خصوصاً. دوّن أسعار كل شيء. حتى سعر علبة الكبريت وماركات الملابس كلها وأسماء الأفلام المعروضة والمسرحيات وأنواع السيارات. يذكر عبدالمجيد: {كنت أعلم أن الحواس الخمس ستظهر فيها وسيشم القارئ رائحة مائها ويشعر بطعم زمانها}. وتابع: {سافرت إلى كل مكان مرت الرواية عليه، دير العذرا بقرية درنكا في أسيوط وهو الدير الذي ستنتهي إليه كاميليا بعدما تعقدت قصة حبها مع رشدي المسلم بسبب رفض أهلها المشوب بالدهشة وأصولهم الريفية، فلا تجد طريقاً إلا الرهبنة والبعد عن الدنيا كلها}.

في الجزء المخصص برواية {طيور العنبر} يقول عبدالمجيد: {لو لم أكن اسكندرياً لوددت أن أكون كذلك}، متسائلاً: {لا أعرف ما إذا كانت الإسكندرية هي التي فعلت بي ذلك أم أنا الذي جئت هكذا}، وأضاف: {عشت في الإسكندرية ربع القرن الأول من حياتي وكتبت عنها أكثر من سبع روايات حتى الآن، السنون الأولى بالتأكيد تظل تثير الدهشة رغم أنني عشت في القاهرة سنوات الأسئلة الصعبة، سنوات التحول الاجتماعي والسياسي العنيف في السبعينيات. كتبت ذلك بروح اسكندري، بألم عميق وحزن جليل وتوتر لا ينتهي. هكذا بنيت معمار رواياتي وموضوعاتها}.

يحكي لنا إبراهيم عبدالمجيد كواليس كتابة ونشر اثنتين من أهم رواياته وهما {طيور العنبر} و{الإسكندرية في غيمة}، والتي يفرق بينهما عشر سنوات كاملة فقد تم نشر {طيور العنبر} عام 2000. وبدأ في كتابة الأخيرة التي نشرت عام 2013، ويقول: {طيور العنبر كانت بمثابة مرثية للمدينة الكوزموبوليتانية. وكان مشروعي الذي أعلنت عنه كثيراً هو عن المدينة التي غزتها أفكار الصحراء الوهابية والسلفية فضاع ما تبقى من المدينة الكوزموبوليتانية والمدينة المصرية أيضاً. كان المشروع واضحاً أمامي تماماً، خصوصاً أني عشت تفاصيله ولم يكن صعباً أن أبدأ فيه وأهبه حالة من الاطمئنان للزمن أعيشها دائماً لا أجد نفسي متعجلاً في الكتابة. كنت على يقين غامض في روحي أني سأكتبها ولن أخسر شيئاً إذا انصرفت عنها إلى روايات أخرى تضعني أمام الحياة}.

خصص المؤلف جزءاً كاملاً يحمل اسم {القصص القصيرة} مبادراً بسؤال مهم: هل يختلف ما وراء القصص عن الرواية؟ ويرد قائلاً: {من المؤكد أنه يختلف فهو من البداية يحدد نفسه في قالب القصة القصيرة، إحساس عميق حقاً وربما يكون أعمق في إلحاحه على الروح ولكنه كما يأتي يخرج بالسرعة نفسها، المسافة الزمنية بين ميلاده في الروح وبين بعثه على الورق أقل مما يحدث في الرواية طبعاً. هذه التي تمشي معك حلماً وكتابة لسنوات وسنوات}.

يقول: {كتبت القصة القصيرة لأنشرها. كانت هي طريقي إلى الوجود الأدبي ومن ثم إلى المسابقات وكانت هي ما نتناقش حوله في نادي الأدب في الستينيات في قصر ثقافة الحرية في الإسكندرية مع أصدقائي من الكتاب}.

يستكمل عبدالمجيد كلامه: {كانت أول قصة نشرت لي، لم يذكر اسمها، هي الفائزة في نادي القصة في الإسكندرية، وكانت على مستوى الجمهورية وكانت جائزتها كأساً فضية وثلاثة جنيهات. وتم نشرها في جريدة {أخبار اليوم} على صفحة كاملة ومقدمة صغيرة للكاتب محمود تيمور عنوانها {هذا قصاص موهوب}، وتم تحويل هذه القصة إلى سهرة إذاعية في إذاعة {صوت العرب}.