في فصلٍ من كتاب "تهافت الستينيين"، كتبت عن "الشاعر النجم والشاعر المعلم". عن مباهج الشاعر النجم، التي تبتليه بالوحدة على مراحل، والحرمان من حميمية العلاقة ونعمة الصداقة، واختلال الثقة بالنفس وبالآخر. إنها حصاد هشيم الشهرة، التي تحذر منها حكمة عدد غير قليل من الشعراء العالميين. لأن معظم حالات الشهرة التي يتحلى بها الشاعر إنما هي "وليدة سوء الفهم الذي يمكن أن يتراكم حوله مع الأيام"، على حد تعبير الشاعر الألماني ريلكة.

Ad

حين جئت لندن كانت سمعة التينور الأوبرالي "بافاروتي" في أولى مراحل تألقها. وكنت، شأن محبي الأوبرا، أتابع عروضه وتسجيلاته. ثم تألق النجم، وطغت صورته وأخبار حياته الشخصية على صوته في أداء الإرث الإيطالي في فن الأوبرا. مع هذا الطغيان ركد بي الحماس في الاهتمام والمتابعة. هناك كتب صدرت عن "بافاروتي"، لكن هناك كتبا ومقالات عديدة صدرت عن جيْد جودي التي ظهرت بصورة شائنة في برنامج Big Brother الرخيص. وفي المسار ذاته، توقفت عن الاشتراك في مجلات الموسيقى الكلاسيكية، لأنها أصبحت مجلات غلاف نجوم، ومتابعة أخبار المغنين والعازفين وقواد الأوركسترا المشاهير. وتحت ظلالهم غامت شخصيات عباقرة الموسيقى من المؤلفين.

هذه المحنة تبغّلت في الغرب الحديث بصورة مريعة، وطالت العالم أجمع. في العالم العربي، على سبيل المثال، صار الشاعر يريد مهرجاناً، ولا يطمع بكتاب.

ذهبت مُعبّأً بهذا الهاجس لمشاهدة الفيلم الأميركي Birdman، أو "الرجل الطير، الفضيلة غير المتوقعة للجهل" (إخراج المكسيكي Iñárritu، وبطولة Michael Keaton)، فهو يعالج هذا المأزق: ريغان ممثل مُتعب، مُشفق على ذاته، بعد شهرة ضاربة بفعل بطولته في فيلم "الرجل الطير" الذي اشتهر فيه قبل عقدين من الزمان. ينصرف جاهداً لاستعادة شيء من هذه الشهرة عبر إخراج مسرحية في واحدة من قاعات نيويورك المعروفة، والمشاركة في التمثيل.

المشهد الأول يكشف عن مأزقه بصورة رمزية، فهو يجلس كالبوذي في لحظة تأمل، لكنه محلق في فضاء الغرفة. ريغان يملك قدرات سحرية في الطيران والتدمير لحظة الغضب. وهو غاضب، يائس طوال الوقت. يعيش واقعاً وفانتازيا تشبه فتحة هرب من ذلك الواقع. تقنية رائعة في فضح الالتباس النفسي المُعذب، إزاء فشل متواصل مع الممثل الأول، ومع بديله الأوسع شهرة في المسرحية، مع ابنته المدمنة على المخدرات، مع صديقته الممثلة الأصغر سناً. ومع الناقدة التي تتهمه: "أنت لست ممثلاً، بل شهيراً فحسب" (فصل رائع بين الموهبة والشهرة)، وتتوعّد بتحطيمه.

في موازاة ذلك لا ينفك بطل فيلم "الرجل الطير" القديم، يلاحقه في الوهم، يحلق معه (وهو يمثل أناه العليا)، محاولاً رفع معنوياته، ويوبخه على ضعفه. لكن الواقع يجره إلى الحضيض: في واحدة من البروفات، وفي وقت الاستراحة، يخرج بالروب من كواليس المسرح إلى فضاء خلفه، ليدخن سيجارة. لكن الباب يُغلق على طرف الروب، فلا يستطيع الفكاك إلا بأن ينزع الروب، ويفلت عارياً. ولكي يرجع إلى مدخل المسرح الرئيسي يضطر إلى أن يقطع شارعاً في أكثر مناطق نيويورك زحمة وحيوية، يلاحقه الناس بين مُعجب ومُندهش.

كوميديا سوداء تماماً، تعزز هيمنتها عليك كامرة بالغة البراعة (عدسة عمانويل لوبيزكي الذي حاز جائزة الأوسكار في فيلم "جاذبية"). فثلثا الفيلم يتمان في لقطة متواصلة واحدة، أو هكذا تبدو، داخل كواليس المسرح الخلفية. الممثل الذي يناضل لاستعادة مجد شهرته، يظل عرضة لقوتين كاسرتين تنهشان به. من داخله، ومن خارجه.

خرجت وأنا أشعر بأن الفيلم يحتاج إلى مشاهدة أخرى بفعل كثافته، وحواره الذي لا ينقطع. لكن خط الفيلم العام جليٌّ تماماً. يعزّز بي، ويلوّن هاجسي الذي لا أنفك أتأمله، وأكتب عنه، بشأن ورم السعي المميت، لا للشهرة والجاه وحدهما فحسب، بل للسلطة والثروة أيضاً. فجميع هذه الأوبئة إنما تخرج من جذر شيطاني واحد، كامن في ابن آدم منذ وُجد.