إذا افترضنا أن الإعلام سيقوم بدور جوهري في محاربة التطرف في عالمنا العربي، فإن ذلك الدور يجب أن ينطلق من الالتزام بالمعايير المهنية، ولا ينبغي أبداً أن يتحول إلى وسيلة يتم من خلالها تسخير وسائل الإعلام للعب أدوار دعائية في خدمة تصورات الحكومات عن التطرف وسبل مواجهته.

Ad

في الفترة من 3 إلى 5 يناير الجاري عقدت مكتبة الإسكندرية مؤتمراً تحت عنوان "نحو استراتيجية عربية شاملة لمواجهة التطرف"، استجابة لتكليف من الرئيس المصري السابق المستشار عدلي منصور، وهو التكليف الذي صدر على هامش مشاركته في القمة العربية الأخيرة، التي عقدت في الكويت، خلال شهر مارس الماضي.

وقد شارك في أعمال المؤتمر، الذي عقد تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي، أكثر من مئتي مثقف ومفكر عربي، حاولوا الوصول إلى استراتيجية متكاملة لمواجهة خطر التطرف، يمكن أن يتم عرضها على القمة العربية المقبلة خلال شهر مارس المقبل، بموازاة استفحال خطر الإرهاب وتأثيراته في المنطقة العربية، مع الصعود الهائل لتأثير تنظيم "داعش"، وغيره من المنظمات الإرهابية والتكفيرية.

وفي جلسة خصصها القائمون على المؤتمر لمناقشة دور الإعلام في مواجهة التطرف، حاول كاتب هذه السطور أن يعرض تصوراً لهذا الدور، من خلال الإجابة عن ثلاثة أسئلة رئيسة على النحو التالي:

هل نحن في حاجة إلى تجديد الخطاب الديني؟ الإجابة: لا.

هل الدولة العربية تريد حقاً مواجهة التطرف والقضاء عليه؟ الإجابة: لا.

هل يمكن للإعلام أن يلعب الدور الرئيس في محاربة التطرف؟ الإجابة: لا.

لم يكن من السهل إقناع معظم المشاركين في تلك الإجابات في بادئ الأمر، خصوصاً أن الجزء الأكبر من التصور الذي انعقد على أساسه المؤتمر ينطلق من التسليم المبدئي بأننا في حاجة إلى "تجديد الخطاب الديني"، وأن الدولة العربية حريصة على دحر التطرف، وأن الإعلام يجب أن ينهض بدور رئيس في تلك المعركة.

يفترض كاتب هذه السطور أن الدعاوى والمطالبات والجهود الرامية إلى "تجديد الخطاب الديني"، بوصفه خطوة ضرورية نحو مواجهة التطرف، ومكافحة الإرهاب، لن تسفر عن شيء، باعتبار أن "الخطاب" ليس سوى مقولات، تعبر عن أفكار، فإن كانت تلك الأخيرة فاسدة أو عاطلة أو قاصرة، فالأولى كذلك.

ويرى في المقابل أن ما نحتاجه فعلاً هو "تجديد الدين"، لا "تجديد الخطاب الديني"، وقبل أن تنزعج أو تقلق، فإن مصطلح "تجديد الدين" استخدمه الرسول (صلى الله عليه ووسلم)، في حديث اُعتبر دوماً "صحيح المتن، وصحيح الإسناد".

ويزيد كاتب هذه السطور، مستنداً إلى ما يقوله علماء ثقات، أن هذا التجديد يجب أن يعمق الجذور والثوابت، بقدر ما يغير في الفروع والهوامش، وفق ما تقتضيه المصلحة والحاجة.

ومن ذلك مثلاً ضرورة أن يتفق علماء الأديان على فكرة "تعدد طرق الخلاص الديني"، وفق نية المؤمن وعمله، بما يستلزمه هذا من احترام أتباع مختلف الأديان والمذاهب، وعدم الطعن فيهم، أو الحط من شأنهم، أو التمييز ضدهم.

أما الإجابة الثانية، والتي كانت صادمة بدورها أيضاً، فتتعلق بمقولة شائعة مفادها أن "الدولة العربية تجتهد في محاولة محاربة التطرف والإرهاب"، وهو قول غير صحيح.

والصحيح، كما قال كاتب هذه السطور في المؤتمر السابق ذكره، أن الدولة العربية استخدمت التطرف والإرهاب لتحقيق مصالحها بكل براغماتية وانتهازية، وأنها تستدعي المثقفين والمجتمع والإعلام، للحرب ضد هذا التطرف عندما يخرج عن طوعها، ويبدأ في الإضرار بمصالحها الضيقة القريبة الأجل.

ستكون الأمثلة ضرورية لفهم تلك الإجابة؛ ومن بين تلك الأمثلة مثلاً ما فعله السادات في السبعينيات الفائتة حيال الجماعات الدينية، حين أفسح لها المجال، وأمدها بالعون، لمواجهة التيارات اليسارية والناصرية المعارضة لحكمه.

وهناك أيضاً ما فعله كل حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة حين ساعدوا ما سمى بـ"الجهاد"، في أفغانستان، في الثمانينيات من القرن الماضي، إضافة إلى ما تفعله بعض الحكومات العربية الإفريقية تجاه مواطنيها من غير ذوي الأصول العربية، أو بعض الحكومات المشرقية تجاه مواطنيها من الشيعة أو الكرد، فضلاً عن هؤلاء الذين مولوا وسلحوا "الدواعش"، و"جبهة النصرة"، و"الجماعة الإسلامية المقاتلة"، و"الإخوان"، و"القاعدة"، في أراضي سورية والعراق وليبيا ومصر وتونس.

ثمة مئات الأمثلة التي تفيد أن الدولة العربية عززت التطرف حين استفادت منه، لذلك يجب على تلك الدولة أن تعزز اليقين في أنها تنبذ التطرف وتريد أن تحاربه، إذا أرادت من النخب أو المجتمع المدني أو الأطر السياسية والحزبية أن تساعدها في مواجهته.

أما السؤال الثالث، فيتعلق بالإعلام ودوره، وإجابة ذلك السؤال لن تكون سوى تحصيل حاصل للإجابة عن السؤالين السابقين؛ فبما أن الإشكال يقع في الفكر الديني وليس مجرد المقولات الصادرة عنه، وبما أن اليقين مزعزع في رغبة الدولة العربية في محاربة التطرف، فالإعلام دوره ثانوي... ليس رأس حربة وليس كل شيء.

الإعلام بات ميداناً للمبادرة الإرهابية، وقد هيمن التطرف على قطاع مؤثر من وسائط التواصل الاجتماعي، التي تتزايد حصتها في المشهد الاتصالي باطراد.

وبالتالي فالافتراض أن الإعلام أداة جاهزة للاصطفاف خلف الدولة العربية للعب دور جوهري في مواجهة التطرف هو افتراض لا يسنده الواقع.

وإذا افترضنا أن الإعلام سيقوم بدور جوهري في محاربة التطرف في عالمنا العربي، فإن ذلك الدور يجب أن ينطلق من الالتزام بالمعايير المهنية، ولا ينبغي أبداً أن يتحول إلى وسيلة يتم من خلالها تسخير وسائل الإعلام للعب أدوار دعائية في خدمة تصورات الحكومات عن التطرف وسبل مواجهته.

إن التزام الإعلام بالمعايير المهنية يعني ممارسة إعلامية منفتحة ومتعددة وقادرة على استبعاد الأخطاء المغذية للتطرف، وفي مقدمتها التحريض على العنف، وإثارة الكراهية، والطعن في أتباع الأديان المختلفة، والحط من شأن المذاهب المغايرة، والتمييز بين الناس بسبب الدين أو العرق أو اللون.

حسنا فعلت مكتبة الإسكندرية حين نظمت مثل هذا المؤتمر، وحسناً سنفعل لو ناقشنا مشكلاتنا بصراحة ووضوح، وخرجنا بأفكار جديدة، لا بمقولات معلبة تكرس واقعاً اتفقنا جميعاً على ضرورة الخروج منه.

* كاتب مصري