في ظل هذا الواقع الصعب والمُعقّد يقع بعض الشباب المتحمسين وغير الواعين حبيسي ثنائية مزيفة تروّج لها بعض دوائر الأنظمة التي تحتكر فيها مجموعة صغيرة السلطة والثروة، وهي أنه لا خيار أمام شعوبنا إلا قبول أنظمة الاستبداد والظلم وإلا وقعت فريسة لليمين الديني الفاشي الذي يعتبر أشد استبداداً وأكثر تخلفاً.

Ad

ما يحدث في ليبيا والعراق وسورية واليمن يعفينا من البحث في التاريخ كي نعرف أن الطغاة يُدمّرون الأوطان والدول، إذ إنهم يحتكرون السلطة والثروة معاً، ويغلقون المجال العام أمام الناس، ويقمعون الحريات، وينتهكون حقوق الإنسان، فلا مؤسسات دستورية ولا قواعد عامة لممارسة الحكم أو قوانين عامة عادلة متوافق عليها، ولا عدالة في توزيع الثروة الوطنية بل مجموعة صغيرة تحتكر السلطة والثروة، يوجد داخلها مراكز نفوذ تتصارع فيما بينها من أجل السيطرة ونهب الثروة الوطنية. لهذا تغيب الدولة فيعود الناس، أثناء وجود الطاغية أو بمجرد رحيله، إلى مرحلة ما قبل الدولة، حيث إنهم لا يجدون من يحفظ حقوقهم، ويصون كراماتهم فليجأون إلى هوياتهم الثانوية التي يفترض أنها تندمج تدريجياً في الدولة الوطنية بحيث يصبح الولاء للوطن أولاً لا للهويات الفرعية، سواء القبيلة أو الطائفية أو المذهبية أو المناطقية.

ليس ذلك فحسب، بل إن تجريف العمل السياسي الحقيقي وقمع الحريات وإغلاق المجال العام وهدم مؤسسات الدولة ينتج عنها تكاثر الجماعات اليمنية الفاشية المتخلفة التي تُكوِّن، في غياب الدولة، وأحياناً بتشجيع ورعاية من مراكز النفوذ المتصارعة، ميليشياتها الخاصة، وتتمدد في المجتمع مستغلة العامل الديني في أحايين كثيرة، ثم تحاول فرض سيطرتها على الوضع، إما أثناء وجود الطاغية وتحت رعايته، أو بمجرد رحيله، وهو ما حصل ويحصل حالياً في الدول المذكورة أعلاه.

في ظل هذا الواقع الصعب والمُعقّد يقع بعض الشباب المتحمسين وغير الواعين حبيسي ثنائية مزيفة تروّج لها بعض دوائر الأنظمة التي تحتكر فيها مجموعة صغيرة السلطة والثروة، وهي أنه لا خيار أمام شعوبنا إلا قبول أنظمة الاستبداد والظلم وإلا وقعت فريسة لليمين الديني الفاشي الذي يعتبر أشد استبداداً وأكثر تخلفاً.

هي ثنائية مزيفة لأنهما وجهان لعملة سياسية-اقتصادية واحدة، وإن اختلف الشكل وطبيعة الممارسة، فاليمين الديني الفاشي بأشكاله كافة تربى وتترعرع في أحضان الأنظمة الاستبدادية الفاسدة التي ثارت عليها الشعوب العربية، ولكن عدم جاهزية البديل المدني الديمقراطي في ذلك الوقت، لأسباب كثيرة، بعضها موضوعي وبعضها ذاتي يتعلق بطبيعة قوى التغيير الديمقراطي، جعل اليمين الديني يختطف الثورات ويحرفها عن تحقيق أهدافها، بوصفه أحد مكونات قوى الثورة المضادة، ثم يحاول إقصاء الخصوم السياسيين للأبد، وتغيير شكل الدولة الحديثة وتدمير المنجزات الحضارية والإنسانية في محاولة بائسة للعودة بالمجتمعات قروناً إلى الوراء، وهو ما جعل الشعوب تجدد ثوراتها للتخلص منه وإسقاطه ليعود صراعها مرة أخرى مع القوى الأخرى للثورة المضادة، حيث إن التغيير الذي أحدثته الثورات لم يمسّ بشكل كامل البنية السياسية- الاقتصادية للأنظمة الاستبدادية.

هذا الأمر يجعل المسؤولية مضاعفة على قوى التغيير الديمقراطي والتقدم الاجتماعي، فهي وحدها المؤهلة والقادرة على رفع مستوى وعي الناس ثم طرح البديل المدني الديمقراطي الذي يوحّد جهودهم حول قضاياهم الحياتية المشتركة، ويؤسس لقواعد مدنيّة صلبة تضمن بناء دولة دستورية ديمقراطية يتعايش فيها الجميع.