مع الصعود الكارثي لألوية التطرف، والتوالد المتناسل للإرهاب، في جيوب الأزمات ومناطق النزاع ومواضع الصراع، كثر الحديث عن تجديد الخطاب الديني.

Ad

هذه الدعوة بدأت مبكراً منذ خمسينيات القرن الماضي، طرحت حينها بشكلٍ جدي شكّل امتداداً لدعوات محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني. بدأ البحث في أسس وأساليب تجديد الخطاب الديني، ومارس عبدالله القصيمي شيئاً من هذا البحث في كتابه «هذه هي الأغلال»، والشيء ذاته فعله أدونيس في «الثابت والمتحول»، وصولاً إلى مشاريع كوكبة من المفكرين مثل: الطيب تيزيني، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وطه عبدالرحمن، ونصر حامد أبوزيد، ومحمد أركون، وعلي حرب، وجورج طرابيشي. تعددت آليات كل واحدٍ من هؤلاء ومنابعه وطريقة قراءته، ومشارب مشروعه، وحدة مشارطه، واجتمعت عند إشكال نقد الموروث، والبحث عن خطابٍ ديني جديد يليق بالمرحلة ويتناغم مع العصر.

في هذا الزمن الداعشي الدموي، تتجدد أهمية موضوع تجديد الخطاب الديني، فقد شكل الداعشيون وأنصارهم، المعلن منهم والمتخفي خطاباً باسم الإسلام، أصله قطع الرؤوس وركنه إراقة الدماء، والتعاطي مع المختلف فيه لا يكون إلا بالرصاص أو السيوف الحادة، وهو إسلام لا يمت إلى إسلام محمدٍ بصلة، ما يوجب البحث عن خطابٍ دينيٍ متجددٍ متسامحٍ يبشر ولا ينفر، ويجمع ولا يفرق. إن مشاريع كوكبة المفكرين العرب الذين أشرنا إليهم آنفاً، على جودتها، إلا أنها لم تكن ملتصقة بالناس، بل كانت نخبوية لم تمتد لتؤثر في الوسط الاجتماعي، ولم تحتك بالعصب الفكري الذي يشكل البنية الجمعية للمجتمعات العربية والإسلامية. ربما جاز لي أن أختصر الضرورة في تجديد الخطاب الديني عبر نقاطٍ منها:

أولاً: تجديد التعليم الديني وذلك بشقيه التعليم النظامي، أو التعليم غير الصفي في المساجد والجوامع، وهذا التغيير يتجلى في تهيئة الإنسان على حب الأسئلة، وإنقاص مخزون الأجوبة، وفتح المجال للنسبية العلمية. من هنا يتكون لدى الإنسان حس التسامح والاحتمال وإعذار الآخرين.

ثانياً: تجاوز الأسلوب الخطابي إلى الأسلوب الحواري، ولو رجعنا إلى الخطاب النبوي لوجدنا أن جلّه كان حوارياً، يحمل النقاش والتجاوب مع آراء الآخرين. لقد دمّر الأسلوب الخطابي البنية الذهنية وجعل الناس تحت رحمة سياط المعلّمين والوعاظ والدعاة، وتحت سلطة الرأي «الواحد» أو الرأي «الراجح»، وهذا أخطر خلل فكري في الخطاب الديني المعاصر، إنه فوقية المنبر، وسفلية المتلقي.

ثالثاً: البدء بغربلة المفاهيم الدينية مثل التكفير والولاء والبراء والجهاد وسواها، وإخضاعها للبحث العلمي الدقيق، إذ يقوم على إعادة فحصها وتحليلها نخبة من حكماء الإسلام يغلقون عبر آرائهم الباب أمام تأويلات التطرف وفتاوى الاستئصال وسيوف السفهاء، هذه المفاهيم تحتاج إلى شجعان يطرحون إشكالياتها والخلل الذي اعتور فهمها.

رابعاً: تخفيف النفس الطائفي في التداول الفكري الإسلامي، والبحث عن أساليب تواصل جديدة تتجاوز أساليب التنافي والتراشق والتكفير. على حكماء الإسلام إيقاف المد الطائفي في الخطب والتعاطي الفكري والفقهي، إن تم هذا فإن الكثير من الخطابات المتطرفة ستتعرض لإحراج فكري يجعلها معزولةً عن التأثير على المجتمعات والشعوب.

تجديد الخطاب الديني أيها السيدات والسادة، ليس ترفاً فكرياً ولا مسألة من مسائل الفروع، بل هو اليوم ضرورة قصوى، وعلى النخب السياسية القيام بهذه المهمة، وإنفاق المال عليها، وتحويل مشاريع الكوكبة من المفكرين والفلاسفة العرب إلى مقررات في مناهج التعليم بغية حصار خطاب التطرف ودعوات العنف والإرهاب، وإصلاح التعاطي الديني هو أساس أي إصلاح، كما يعبر الفيلسوف كارل ماركس.

إنها مهمة المهمات وضرورة الضرورات، ولا مجال لتأخيرها وإلا فسننتظر مزيداً من الدواعش، وإن بأسماءٍ أخرى.