وسط تلال الدمار السياسي والخراب الاجتماعي الذي يحيق بعالمنا العربي والإسلامي في هذه الحقبة السوداء، ترتفع بعض الأصوات الواهنة من هنا وهناك تستنكر وتتألم وتمتعض مما يحدث. وهي أصوات واهنة وحيية لأنها لا تستطيع أن تغير الواقع أو تتدخل في مجريات الأمور، كون المصائر الكبرى تظل في يد حفنة من الساسة والمتنفذين وأصحاب الأجندات التي تخدم مصالحهم في استمرار دمار الإنسان وخرابه.

Ad

من ضمن الأصوات الواهنة التي لا يُلتَفت لها صوت المرأة على وجه الخصوص، فهي ما تزال بلا إرادة ولا فعل، وغالباً ما تكون الضحية التي يسهل انتهاكها وتلطيخها بالأوحال حين تفكر بفعل إيجابي يعبر عن الرفض إبان الأزمات والحروب. ولنا فيما حدث لفتيات المقاومة – إبان الغزو الصدامي – مثال، تماماً كغيره من أمثلة الانتهاكات للمرأة المصرية أثناء الاعتصامات، أو المرأة الليبية إبان حكم القذافي، أو المرأة العراقية الآن، والتي انتهت إلى الاختباء خلف العباءة والحجاب والانسحاب من المشهد الحياتي بعد أن أثخنتها آلام الثكل والخوف ومشاهد القسوة والدمار.

في عالم مثل هذا مسكون بالوحشة وآيل إلى المحو والسقوط، قد يحتار القائمون على جائزة نوبل في شأن منحها لمن؟! إذ لم يعد ثمة داعٍ للبحث بين ظهرانينا عن طبيب جهبذ توصل إلى دواء للإيدز أو للسرطان، أو التنقيب بيننا عن روائي مبدع يجلس وراء "الكي بورد" محدّقاً في شاشة "اللاب توب" ليدبّج تلك اللغة التي تتزحلق على تلال الأوجاع عن بُعد، أو تتناولها بالشوكة والسكين خشية الخروج عن أتكيت الكتابة وطقوسها الفارهة. في عالم مثل عالمنا لا يبقى إلا أضعف الإيمان، وهو البحث عن الأصوات الواهنة، التي رغم وهنها تحاول أن تقول وترفض وتدفع الثمن غالياً في مكان ليس للإنسان فيه ثمن في واقع الأمر!

حين تفوز "ملالا" المسلمة الباكستانية بجائزة نوبل هذا العام، وقبلها توكل كرمان اليمنية، وقبلهما نسوة أفغانيات وإيرانيات وعربيات ممن لم يفزن بشيء اللهم إلا الذكر العابر عن موقف أو بادرة، حين يحدث ذلك فهو تماماً ما يجب أن يحدث. فعالمنا لم يعد الآن في حاجة إلى "ناجحين" أو "متفوقين" بقدر حاجته إلى "معالجين – healers" ومتطوعين وأساة للجروح وناشطين في الشأن الإنساني. أو بتعبير آخر بحاجة إلى من يرمم الثقوب ويُسكت طوفان الكره، ويقول للتطرف: حسبك، وللقسوة: كفى. هكذا أصبح للجوائز العالمية معايير أخرى وحسابات تتلاءم وحاسة التوجس من عالم يخطو نحو الهاوية.

حين قررت "ملالا" أن تعبر عن موقفها الرافض للقرار الذي اتخذته حركة طالبان بشأن حظر تعليم الفتيات، لم تكن حينذاك تتعدى الرابعة عشرة من عمرها. وكانت تترجم هذا الرفض بالكتابة في مدونتها الخاصة وبالاصرار على الذهاب إلى المدرسة رغم الحظر والخوف. إلى أن اقتنصها أحد مسلحي طالبان في باص المدرسة بعد أن أصبحت المطلوبة رقم واحد للحركة المتطرفة، وأطلق على رأسها الرصاصة التي دوّت عالياً في ضمير العالم. الغريب أن بلدها الباكستان - الذي تعيث به حركة طالبان فساداً – لم يتحمل مؤونة علاجها أو بالأحرى مسؤوليتها، لنجد الفتاة تنتقل إلى الإمارات العربية المتحدة للعلاج، ثم إلى بريطانيا.

"ملالا" الآن في السابعة عشرة من عمرها، وتقيم في "بيرمنغهام / بريطانيا"، وتكمل تعليمها في مدارسها، بعد أن تعافت وأمنت على نفسها من الخطر والملاحقة. ثم تُوّجت جهودها مؤخراً بالحصول على جائزة نوبل للسلام لتصبح أصغر فائزة في تاريخ هذه الجائزة العالمية. ولكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً يدور في الأذهان حول مدى انتماء "ملالا" الآن إلى وسطها وبيئتها وعالمها المشوّه بالظلم والقسوة والتطرف؟ عالمها الذي تمردت عليه ثم خرجت منه إلى بيئة أكثر حرية واحتراماً لإنسانيتها واختياراتها المشروعة في الحياة؟

لا أدري ما مدى وضوح الرسالة التي لا ينفك الغرب يرسلها لنا من خلال تبنّيه لأمثال "ملالا" و"توكل كرمان" وغيرهما من المناضلات والمناضلين الباحثين وسط الرماد عن حقوق الإنسان الأصيلة كالحرية والديمقراطية وحق التعليم والتعبير والعيش بكرامة؟ وما مدى قدرة تلك الأجراس العالية القرع على صنع واقع أقل جهامة وأكثر عدلاً وإنسانية؟