كنتُ في أحد مطارات الولايات المتحدة الأميركية عائداً إلى الكويت، لحظة جاءت امرأة تقاربني سناً لتجلس إلى جانبي. بقيت مشغولاً بقراءة رواية، بينما استخرجت هي كيس بطاطا صغيراً وفتحته وراحت تأكل بصوت مسموع، وسرعان ما خاطبتني سائلة: "أضايقك؟"

Ad

التفتّ إليها وأجبتها: "أبداً".

لكنها عادت بعد مدة لتسألني: "ماذا تقرأ؟".

ابتسمت لها وقلت: "رواية للكاتب الأميركي فليب روث".

كانت قد أوشكت على الانتهاء من أكل البطاطا، لكن شيئاً من الانزعاج لاح على وجهها وقالت: "أنا لا أحب روث".

ولأني بقيت ساكتاً، أضافت هي: "رواياته تشعرني بالتعاسة واليأس".

ابتسمتُ لها، وقلت: "روث بالنسبة لي أحد قمم الرواية في القرن العشرين".

نهضت هي لترمي كيس البطاطا، وتنظف أصابعها بورقة تنظيف رطبة، قبل أن تعود إلى مكانها وعلى محياها يلوح كلام كثير: "إلى أين أنت مسافر؟".

سألتني، فتركت الرواية، وقابلتها: "كنتُ في مؤتمر، وأنا عائد إلى بلدي الكويت".

وكما لو أن سكوتي استفزها، فعادت تسألني: "ألا تريد أن تعرف إلى أين أنا ذاهبة؟".

ابتسمت لها وقلت: "تفضلي".

فقالت "أنا دكتورة في الجامعة، في طريقي إلى تركيا لتقديم دورة دراسية".

دار حديث طويل بيننا، فبيّنت لها أنني متزوج، وأنني أثناء المؤتمر التقيت بابنتي وزوجها وحفيدتي، فظهرت الدهشة على وجهها، وبادرتني السؤال: "أنتَ جد؟"

"منذ ثلاث سنوات."

فجأة سكتت لتضيف بعد برهة: "لن تخسر أنتَ شيئاً لو سقطت الطائرة ومت".

استغربت جملتها بفألها، ولأداري استغرابي ابتسمت لها، فسألتني:

"عندك أخوة؟"

بقي الابتسام يلازمني، وأجبتها: "عندي ثلاثة أخوة، وأختي الكبيرة جدة مثلي".

وكما لو أنها تؤكد فكرتها أعادت عليَّ: "كما قلت لك، لن تخسر شيئاً لو سقطت الطائرة ومت".

رحت أطالعها، وكأني أبحث عن معنى لجملتها، فهدئ صوتها وهي تشرح لي: "عشت أنتَ جميع مراحل الحياة، ولدت، وترعرعت بين أخوة، وتزوجت، وعايشت طفولة وشباب أبنائك، وتزوجوا ورأيت أحفادك".

سكتت فجأة، وكأنها تستذكر شيئاً غاب عنها، قبل أن تقول: "ليرتح قلبك، لقد عشت الحياة كأكمل ما تكون".

لمحت غيمة أسى تصعد لوجهها وهي تنبس قائلة: "أنا تزوجت مرتين ولم أوفق بزواج، ولم أنجب طفلاً. ما عشت حلاوة شقاوة الأبناء، ولا خفت عليهم، ولا استوحشت لفراقهم، ولا فرحت لنجاحهم، ولن يناديني أحدٌ بكلمة جدتي".

ترقرقت دمعتها، وتندت عينايّ ببوح وجعها.. جاء نداء طائرتي، فنهضت أودعها، تاركاً إياها لمقعد بارد.

اليوم تودعنا سنة مرت علينا بحلوها ومرها، وتطلّ علينا سنة جديدة، فكيف لنا أن نودّع ونستقبل؟

نصيحة تلك المرأة العابرة مازالت تصاحبني في كل أوقاتي، فهي ترى الحياة اليومية البسيطة، بكل ما فيها من وجع وترح، كافية لأن تكون مثالية. تحقيق حلمٍ كبير شأن مشروع يستحق العناء في سبيله، لكن الحياة نفسها هي ثمن باهظ لنيل ذلك الحلم. يأخذنا ضجيج أحلامنا، فننشغل به عما يحيط بنا!

الوطن العربي وللأسف يعيش مآسي توجع القلب والنفس، ولم يعد لنا إلا عيش لحظتنا بهناء مع منْ نحب إن تيسّر لنا ذلك. صحيح أن العمل منجاة للروح من سقم الواقع، لكن الصحيح أيضاً، أن الهناء بما بين أيادينا هو لذة العيش.

سأفتح صفحة جديدة لعام جديد، وكما تعودت طوال عمري، سأظل أجد وأجتهد ما أمكنني ذلك، لنيل حلمٍ يلوح على البعد. ولكن، سأظل أقتنص كل لحظة لأسعد بما بين يدي، بين أفراد عائلتي وأصدقائي ومعارفي، ومع متع الحياة الطيبة والكثيرة.

عيشوا لحظتكم بقلوب متفائلة، ودعوا التألم بالوجع لحين وصول لحظة الوجع البائسة.