ما قل ودل: نصوص تحمي القاضي في نزاهته وعدله (1)

نشر في 02-11-2014
آخر تحديث 02-11-2014 | 00:01
مبدأ استقلال القضاء ليس غاية في ذاته، بل هو الضمان لتحقيق الغاية الأسمى التي تقرر هذا المبدأ لتحقيقها، وهي إقرار العدل وضمان الحقوق والحريات، فلا يجوز أن نسدل الصمت على حكم قضائي لم يحقق هذه المقاصد بل أخطأ في تحقيقها، أو أخطأ في تطبيق القانون؛ لأننا إذا فعلنا هذا فسنفرغ مبدأ استقلال القضاء من مضمونه الحقيقي، ونجعله غاية في ذاته.
 المستشار شفيق إمام تناولت في مقالي المنشور على هذه الصفحة في 29 أكتوبر الماضي، ما نصت عليه المادة 162 من الدستور بأن شرف القضاء ونزاهة القضاة وعدلهم أساس الملك، وهي العصمة الذاتية التي يصنعها القاضي بنفسه ولا تصنعها النصوص، ومع ذلك فإن من النصوص في الدستور والقوانين ما يكفل حماية القاضي في نزاهته وعدله، وهو ما نحاول الإلمام به في عجالة في هذا المقال.

أولا: رقابة الرأي العام من خلال:

 1- علانية الجلسات. 2- تسبيب الأحكام 3- نقد أحكام القضاء.

1- مبدأ علانية الجلسات:

وهو المبدأ الذي تقرره المادة (165) من الدستور ليخضع القضاء لرقابة الأمة مصدر السلطات جميعاً، من خلال رقابة الرأي العام، ويكمل المبدأ الدستوري المقرر لعلانية الجلسات مبدأ آخر لا يقل عنه أهمية، وهو وجوب النطق بالحكم في جلسة علنية ليخضع الحكم كذلك لرقابة الرأي العام.

ولئن كانت بعض الدساتير تستثني من مبدأ علانية الجلسات الأحوال التي تقرر فيها المحكمة سرية الجلسات مراعاة للنظام العام والآداب العامة، كما فعلت دساتير مصر، وبعض الدساتير، وكما تقرره قوانين المرافعات في بلدان أخرى ومنها القانون الكويتي، فإن المبدأ القاضي بوجوب النطق بالحكم في جلسة علنية لا يرد عليه أي استثناء لأنه مبدأ دستوري يعلو حتى على النظام العام.

2- تسبيب الأحكام:

وهو ما تقضي به قوانين تنظيم التقاضي في العالم كله، وما ألزمت به المحاكم المادة (115) من قانون المرافعات المدنية والتجارية في الكويت، ورتبت المادة (116) على قصور التسبيب بطلان الحكم.

ويحقق تسبيب الأحكام هدفين:

الهدف الأول: بسط رقابة المحكمة الأعلى درجة على الحكم عند الطعن عليه أمامها للتحقق من قيامه على أسباب واقعية وقانونية سائغة تؤدي إلى النتيجة التي انتهى إليها.

الهدف الثاني: بسط رقابة الرأي على أحكام القضاء، ولا أدل على ذلك من أمرين، أولهما: أن التزام المحكمة بتسبيب الحكم جاء عامّاً ليسري على كل الأحكام، ولو كانت أحكاما باتة ونهائية أو كانت غير قابلة للطعن عليها بأي طريق من طرق الطعن، ثانيهما: أن المشرع قد قرن النطق بالحكم في جلسة علنية، والذي يخاطب به المحاكم كلها، بوجوب تسبيب الأحكام.

3- نقد أحكام القضاء:

وهو موضوع محسوم في الغرب الذي يقدس حرية الرأي وحق التعبير عنه، ولكنه يطفو على السطح عندنا من آن إلى آخر، ويبدو في بعض الأحيان كأنه خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه، وإن من يخلعون القداسة على أحكام القضاء لا يفتؤون يرددون على مسامعنا شعارات رفعوها عن مبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء، وأن الحكم عنوان الحقيقة، وهم يخطئون بالاستناد إلى هذه المبادئ محلها، ويوردونها غير موردها.

ذلك أن نقد الأحكام ولو كانت قد أصبحت نهائية وباتة لا يتضمن عدواناً على هذا المبدأ بل انتصافاً وتأكيداً له، من خلال مطالبة المحاكم بالعدول عما جرت عليه من تفسير أو تطبيق خاطئ للقانون أو مطالبة المشرع بالتدخل لمعالجة القصور أو النقص والغموض في التشريع.

وإن مبدأ استقلال القضاء ليس غاية في ذاته، بل هو الضمان لتحقيق الغاية الأسمى التي تقرر هذا المبدأ لتحقيقها وهي إقرار العدل وضمان الحقوق والحريات، فلا يجوز أن نسدل الصمت على حكم قضائي لم يحقق هذه المقاصد بل أخطأ في تحقيقها، أو أخطأ في تطبيق القانون لأننا لو فعلنا هذا فإننا نفرغ مبدأ استقلال القضاء من مضمونه الحقيقي، ونجعله غاية في ذاته.

وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق، الذي لا ينطق عن الهوى، وهو يتولى ولاية القضاء "إِنَّمَا أَنَا بشرٌ، وَأَنْتُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي له نَحْوَ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ". ويقول الإمام محمد عبده "ليس على القاضي في خطئه- إذا أخلص النية- تعقيب، فهو بشر قبل كل شيء، إنما عليه المآخذ تأخذه بالنواصي والأقدام، إذا انزلق في مزالق الهوى وأحاطت بعنقه الشبهات".

فالخطأ وارد في الأحكام القضائية، ولو كان المشرع قد اعتبر الحكم عنوان الحقيقة، لأن ذلك لا يعني سوى أنه لا يجوز للخصوم بعد أن استنفدوا كل وسائل الطعن في النزاع القضائي الذي شجر بينهم أن يعودوا لإثارة النزاع من جديد أمام المحاكم، وهو ما اصطلح على تعريفه بمبدأ حجية الأحكام، باعتبارها قرينة قانونية قاطعة أقامها المشرع، استقراراً للأوضاع القانونية.

وقد تناولت نقد أحكام القضاء في كتابين صدرا لي في عام 1997 أولهما، "الحوار الدستوري والسياسي حول انتخابات الرئاسة"، والثاني "المحكمة الدستورية ومعضلة التوفيق بين سيادة الدستور وسيادة الشعب"، وفي مقال نشر لي على صفحات "الجريدة" في عددها الصادر في 4 نوفمبر سنة 2011 تحت عنوان "نقد أحكام القضاء، الحق الغائب" قلت فيه إن الأساس الدستوري لحق نقد أحكام القضاء يكمن في ثلاثة مبادئ دستورية: أولها علانية الجلسات، وهو مبدأ لم يوضع عبثا، إنما وضع لكي تخضع إجراءات التقاضي وأحكام القضاء لرقابة الرأي العام، وثانيها أن الأمة مصدر السلطات جميعا، فلا يجوز أن تكون أي سلطة بمنجاة من رقابة الأمة، وثالثها ما تكفله الدساتير من حرية الرأي وحق التعبير عن الرأي.

وفي مقال تالٍ له تحت ذات العنوان نشر في 11/11/2011 تناولت بالرد والتفنيد الأسانيد التي يستند إليها من يعارض هذا الحق، والواقع أن المشرع في الكويت قد حسم هذا الأمر في قانون الجزاء رقم 16 لسنة 1960 عندما نص في المادة (147) على أنه: "لا جريمة إذا لم يجاوز الفعل حدود النقد النزيه لحكم قضائي، سواء تعلق النقد باستخلاص الوقائع أو تعلق بكيفية تطبيق القانون عليها".

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

back to top